القصّة القصيرة جدّاً

أمين الذيب

يأتلف أدب القصّة القصيرة جدّاً، كما أُصطُلِح على تسميتها، مع سياق التطوّر الإنساني، والأدبي بشكل خاص، لاندراجها من القصّة الكلاسيكية المعروفة لدى الذائقة الشعبية، وتالياً من القصّة القصيرة التي تجاوزت بفعل تطوّر المفاهيم والقيم نمطية القصّة الموغلة في سرديتها وتشعّب عناصرها، إلى أن برزت منذ التسعينات القصّة القصيرة جدّاً كأدب تجاوزيّ للقصّة القصيرة، يعتمد في الإيجاز إدهاشاً، لتمكّنه من تحرير اللغة من زوائدها، لغة نقية صافية تكاد تكون بكراً في تجلّياتها، حيث لم يعُد جائزاً أن نقول أنها اختصار في اللغة بقدر ما هي إعجاز أدبيّ تصل كثافته إلى مستوى المعرفة الكُلّية كلّما اتّسعت المعرفة ضاقت العبارة ، وكأنما هي ومضة خارجة من المعنى المنصهر بالحياة والكون، توجّه رسائل مُقتضبة ذات مدلولات شاسعة، تُتيح للمتلقّي أن يتحوّل إلى كاتب سرديّ منفعل مع النصّ لناحية إعادة الصوغ وملامسة عوالم شعورية أيقظها فيه النصّ المُفعم بجوهر المعنى إلى حدّ العُري اللغوي المتوهّج بإشارات مُكثّفة، ناقلة نمطاً معرفياً مُغايراً للسائد، من دون أن يتخلّى عن فضيلة السرد الومضي.

قد يكون إعراض النُقّاد عن تلقّف نشوء هذا الأدب الجديد ناجم عن عدّة معايير. أوّلاً، تراجع الفكر النقديّ أمام تحدّيات العصر، وخلوّ الساحة النقدية من نُقّاد حقيقيين ما ساهم إلى حدٍّ كبير بعدم انتشار هذا الأدب لما للناقد من دور أساس وفعّال في تنقية الأدب وتطويره ووضعه أمام الذائقة الشعبية كأدب تجاوزيّ يتآلف مع الراهن.

ثانياً، النقّاد الذين تماهوا مع القصّة القصيرة جدّاً واعتبروها أدب المستقبل من دون منازع، ولكنّهم لم يخوضوا معاركهم الحقيقية، وكأنما هم اكتفوا ببعض التعريفات والملاحظات عبر مقالات في بعض المدوّنات. وكتب قليلة تبني معنى التجاوز ومدى إمكانية انخراطه في العصر كأدب جديد بمعالمه ومقاييسه وشخصيته الأدبية. منهم على سبيل المثال، جميل حمداوي، جاسم خلف الياس، وعبد العاطي الزياني.

ثالثاً، النُقّاد الذين لم يتقبّلوا هذا الجنس من الأدب، المعروفون بمواقفهم المنتصرة للماضي الأدبي، وعدم إمكانية تقبّلهم أيّ جديد تجاوزيّ خوفاً على مكانتهم الأدبية التي اكتسبوها عبر تقليد السائد والبناء عليه كقيمة أدبية ثابتة غير قابلة للاعتراف بأيّ جديد، كمثل القاصّ المغربي أحمد بوزفور وسواه.

رابعاً، هناك مجموعة من النقّاد تحايدوا بانتظار ما ستؤول إليه الأمور، فإذا استطاع هذا الأدب الثبات، فهم معه. وإن لا، فهم لن يخسروا مواقعهم النقديّة التي اعتدلوا عليها. مثل سعاد مسكين وسلمى براهمة، وبعض الذين اعتبروا أنّ القصّة القصيرة جدّاً تفتقد للجماليات السردية التي تتمتّع بها القصّة القصيرة، وهذا طبعاً سبب واهٍ، لا يلتقط جمالية الصفاء اللغوي في القصّة القصيرة جدّاً ولا يدرك هذا التحشد الإيحائي المفعم بإدهاش طارئ غير متوقّع عند المتلقّي، وغير قادر أيضاً على فهم التطوّر الذي حدث في المجتمعات التي تحوّلت إلى كتل معرفية نابضة تمتلك اللغة الصافية بديلاً عن الإسهاب السرديّ المملّ.

بالتالي، إن إلحاح الضرورة يقضي بأن تنشأ في مجتمعاتنا حركة نقدية موضوعية محايدة تنظر إلى المستقبل بديلاً عن البقاء في الماضي كي لا يموت أدبنا، وتتضرّر ثقافتنا بتبعيتها إلى ثقافات مغايرة لخصائص قضايانا النابعة من الشخصية القومية والحضارية والثقافية، وكي لا نكون في تبعية فكرية وثقافية نسقطها على واقعنا إسقاطاً سلبياً يؤثّر على إنتاجنا الأدبي الإبداعيّ.

ظهرت القصّة القصيرة جدّاً منذ التسعينات من القرن الماضي استجابة لمجموعة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية المعقّدة والمتشابكة التي أقلقت الإنسان، وما تزال تقلقه وتزعجه ولا تتركه يحسّ بنعيم الطمأنينة والاستقرار والتأمل. ناهيك عن عامل السرعة الذي يستوجب قراءة النصوص القصيرة جدّاً، والابتعاد عن كل ما يتّخذ حجماً كبيراً أو مسهباً في الطول كالقصّة القصيرة والرواية والمقالة والدراسة والأبحاث الأكاديمية… كما لم تجعل المرحلة المعاصرة المعروفة بزمن العولمة والاستثمارات والتنافس الإنسان الحالي، لا سيّما المثقف منه، مستقرّاً في هدوئه وبطء وتيرة حياته، بل دفعته إلى السباق الماديّ والحضاريّ والفكريّ والإبداعيّ قصد إثبات وجوده والحصول على رزقه ما أثّر كلّ هذا على مستوى التلقّي والتقبّل والإقبال على طلب المعرفة، فانتشرت لذلك ظاهرة العزوف عن القراءة، وأصبح الكتاب يعاني من الكساد والركود لعدم إقبال الناس عليه، كما بدأت المكتبات الخاصة والعامة تشكو من الفراغ لغياب الراغبين في التعلّم وطَلَبة القراءة والمحبّين للعلم والثقافة. هذا، ولقد تبلور هذا الجنس الأدبي الجديد ـ على حدّ علمي ـ في دول الشام، وبالضبط في سورية وفلسطين، ودول المغرب العربي وخاصة في المغرب وتونس على حدّ سواء.

إذاً، ما هو هذا الجنس الأدبي الجديد؟ وما هي خصائصه الدلالية والفنية والتداولية؟ وماهي أهمّ النماذج التي تمثّل هذا المولود الجديد في المشرق والعالم العربي.

ومن أهمّ روّاد القصّة القصيرة جدّاً نستحضر من فلسطين الشاعر والقصّاص فاروق مواسي، ومن سورية المبدع زكريا تامر، ومحمد الحاج صالح، وعزّت السيد أحمد، وعدنان محمد، ونور الدين الهاشمي، وجمانة طه، وانتصار بعلة، ومحمد منصور، وإبراهيم خريط، وفوزية جمعة المرعي. ومن المغرب نذكر حسن برطال في مجموعة من أقاصيصه المتميّزة بالروعة الفنّية وهي منشورة في عدّة مواقع رقمية، وخصوصاً موقع «دروب»، وسعيد منتسب في مجموعته القصصية «جزيرة زرقاء 2003»، وعبد الله المتّقي في مجموعته القصصية «الكرسي الأزرق 2005»، وفاطمة بوزيان في كثير من لياليها وكتاباتها الرقمية المتنوّعة. ومن تونس لا بدّ من ذكر الكاتب الروائيّ والقصّاص المقتدر ابراهيم درغوثي. ومن السعودية لا بدّ من ذكر فهد المصبح في مجموعته القصصية «الزجاج وحروف النافذة».

تهدف القصّة القصيرة جدّاً إلى يصال رسائل مشفّرة بالانتقادات الكاريكاتيرية الساخرة الطافحة بالواقعية الدرامية المتأزّمة، إلى الإنسان العربي ومجتمعه الذي يعجّ بالتناقضات والتفاوت الاجتماعي، والذي يعاني أيضاً من ويلات الحروب الدونكيشوتية والانقسامات الطائفية والنكبات المتوالية والنكسات المتكرّرة بمآسيها ونتائجها الخطيرة والوخيمة نفسها، التي تترك آثارها السلبية على الإنسان العربي، فتجعله يتلذّذ بالفشل والخيبة والهزيمة والفقر وتآكل الذات… كما ينتقد هذا الفنّ القصصيّ الجديد النظام العالمي الجديد وظاهرة العولمة التي جعلت الإنسان معطى من دون روح، وحوّلته إلى رقم من الأرقام، وبضاعة مادية لا قيمة لها، وسلعة كاسدة لا أهمية لها. وأصبح الإنسان ـ نتاج النظام الرأسمالي «المعولم» ـ ضائعاً حائراً من دون فعل ولا كرامة، ومن دون مروءة ولا أخلاق، ومن دون عزّ ولا أنفة، معلّباً في أفضية رقمية مقنّنة بالإنتاجية السريعة والاستهلاك الماديّ الفظيع. كما صار مستلباً بالآلية الغربية الطاغية على كلّ مجتمعات العالم «المعولمة» اغتراباً وانكساراً.

شاعر وناقد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى