المتنبّي وبيتهوفن… من الكوفة الى ڤيينا

د. نورالله قدورة

لربما لم تعرف البشرية في تاريخها قاطبةً إبداعاً مثل الذي عرفته على يدي رجلين من أعظم رجال الشعر والفن، أحمد بن الحسين بن الحسن المشهور بأبي الطيب المتنبي ولودافيغ ڤان بيتهوفن.

بين هذا وذاك قرون من الزمان ومثلها من المكان، إلاّ أن الإبداع الذي وُلد من كليهما يكاد لقربه من الكمال أن يكون كأنّه قد خرج من شخصٍ واحد ، حتى ليظن المرء أن بيتهوڤن ليس إلاّ امتداداً لأبي الطيب، وأنّ أبا الطيب ليس إلاّ انعكاساً لبيتهوڤن.

حالتان غريبتان وقعتا في تاريخ الإبداع، اجتمعت فيهما سمات قلما تجتمع مع بعضها البعض لشخص واحد، فما بالك وقد اجتمعت لشخصين في حقبتين متباعدتين!

كلا الرجلين عاش مرارة الفقر، وكلاهما تقلب في بلاط الملوك، خيبات تلتها نجاحات وأعقبتها خيبات.

المتنبي الذي قُتل على أعظم ثروة ربما جمعها شاعر من شعره، باعَ أولى قصائده بدينارٍ واحد، وسُميت لذلك بالقصيدة الدينارية، وهي إحدى نفائس شعره، وبها وضع ذلك الشاب ،آنذاك، من البلاغة والإبداع ما تعجز عنه العقول، يقول فيها مادحاً علي بن منصور الحاجب:

أُسدٌ فرائسها الأسودُ يقودها

أَسدٌ تصير له الأسود ثعالبا

في رتبة حجبَ الورى عن نيلها

وعلا فأسموه عليّ الحاجبا

إن تلقه لا تلقَ إلا جحفلاً

أو قسطلاً أو طاعناً أو ضاربا

أو هارباً أو طالباً أو راغباً

أو راهباً أو هالكاً أو نادبا

هذا الذي أفنى النضار مواهباً

وعداه قتلاً والزمانَ تجاربا

ومخيب العذالِ فيما أمّلوا منه

و ليس يرد كفاً خائبا

هذا الذي أبصرتُ منه حاضراً

مثل الذي أبصرتُ منه غائبا

تدبيرُ ذا حنك يفكر في غدٍ

و هجوم غرٍ لا يخاف عواقبا

إلى آخر القصيدة، فماذا كان عطاؤه من الحاجب المنصور، ديناراً واحداً فقط، دينارٌ واحد هو كل ما جادت به كف المنصور مقابل ما جادت به قريحة المتنبي!! والذي لولا هذه القصيدة لم يكن التاريخ ليأتي على ذكره أبداً.

لم تكن كذلك بداية بيتهوفن مع الموسيقى خالية من الخيبات، والده الخمير وأول أساتذته كان قاسياً إلى درجة جعلت ذلك الصغير يبكي كلّما جلس خلف آلة البيانو. لم يكن القدر أيضاً في صفه أول الأمر، فبعد وقت قصير من سفره إلى فيينّا، ظناً منه أنه سيلتقي بموتزارت، مرضت والدته فاضطر إلى العودة الى مسقط رأسه حيث ماتت أمه بعد ذلك بشهرين .

خيبات مريرة عاناها الرجلان أطلقت ربما منهما وحوشاً من الموسيقى والشعر لم تكن ربما لتخرج من قفصي نفسيهما إلاّ بأن يحطمهما أزميلٌ بقساوة القدر.

ورّاقٌ في الكوفة وأستاذ مغمور للبيانو في فيينا، هكذا بدأ كل منهما حياته، رجلان قدما إلى أجيال من البشر أعظم حالات الإبداع. ثائران على قواعد الفن في زمنيهما، ورغم كل ما قاسياه إلاّ أن نزعة الكبر والترف كانت سمة كل منهما .

المتنبي كان يرفض أن يُقبّل الأرض في حضرة الملوك والأمراء، على عادة شعراء ذلك الزمن، ولم يلق قصائده إلاّ جالساً، وهو امتياز تمتع به المتنبي دون بقية شعراء عصره. كذلك بيتهوفن فإنه كان يرفض أن يعزف إذا دعي لذلك في أمسيات علية القوم ويتوقف عن العزف فوراً لو رأى أحداً ما يتهامس مع آخرَ من الحضور، ولذلك كان بيتهوفن مُستثنىً من جميع البروتوكولات الملكية التي كانت متبعة في عصره.

شبه غريب بين شخصيتي الرجلين جعلت من فن أحدهما مرآة للآخر .

أما وجوه التشابه بين أسلوبهيما فهي غريبة أشد الغرابة، التناقض سمة كلٍ منهما. المتنبي وبيتهوڤن كانا يرميان بفنونهما غير مكترثين بعادات عصريهما أو تقاليدهما، فترى في ما خلفاه حقداً على الوجود والحياة، يقابله زهوٌ وغرورٌ بل وتحد للقدر، رقةٌ في عنف، مجون وعقوق، تتلوهما عفة ووفاء :

هكذا يصف المتنبي حاله مع أبي العشائر ابن عم سيف الدولة عندما حاول اغتياله بسهم أخطأه :

وكل وداد لا يدوم على الأسى

دوام ودادي للحسين ضعيفُ

فإن يك الفعل الذي ساء واحداً

فأفعاله اللائي سررن ألوفُ .

ومن يقرأ شعر المتنبي وهو يزدري الحياة بقمة يأسه حين يقول:

كفى بكَ داءً أن ترى الموت شافيا

وحسب المنايا أن يكن أمانيا

ومن ثم يقرأ ما قاله مزهوّاً بنفسه:

أي محلٍ أرتقي أي عظيمٍ أتقي

وكل ما قد خلق الله وما لم يخلقِ

محتقر في ذمتي كشعرةٍ في مفرقِ

ومثلها قوله لسيف الدولة عندما غادر مجلسه:

إذا ترحّلتَ عن قومٍ وقد قدروا

ألا تفارقهم فالراحلون همُ

و من يستمع إلى سوناتا بيتهوفن المشهورة «ضوء القمر» بحركاتها الثلاث يلمس تشابهاً عجيباً في تعبير الرجلين عن تناقضات نفسيهما.

في تلك السوناتا يبدأ بيتهوڤن بحركة بطيئة وينتهي بالحركة الثالثة منها بأداء مجنون سريع وكأنّه يمزق ألمه بغرور وعنجهية وزهوٍ بالنفس.

سوناتات بيتهوڤين تشبه «سيفيّات» المتنبي أما سمفونياته فتشبه «عضيديات» الأخير «كافورياته».

كلما استمعت إلى مقطوعة «باثيتيك» تتراقص أمامي أبيات للمتنبي وهو يرثي خولة حبيبته الأزلية قائلاً:

وعذلتُ أهل العشق حتى ذقته

فعجبت كيف يموت من لا يعشق

وقائلاً أيضاً:

أرى العراق طويل الليل مذ نُعيت

فكيف ليل فتى الفتيان في حلب

في نزعة جنون من بيتهوڤن في المقطوعة الغريبة ذاتها في تقلباتها وتعاقبات ألحانها ومقاماتها، تهب أبيات المتنبي التي يسخر فيها من الأوابد بجبروت إله لا رقة شاعر عندما يقول :

أين الذي الهرمان من بنيانه

ما أمسه ما يومه ما المصرعُ

تتخلف الآثار عن أصحابها حيناً

ويدركها الفناء .. فتتبعُ

شواهد كثيرة تضع الرجلين أمام بعضهما البعض في مواجهة تاريخية بين الأدب والموسيقى، كتلك التي يشعر بها من يستمع للسمفونية التاسعة لبيتهوڤن ويقرأ قصيدة المتنبي المشهورة:

الخيل والليل والبيداء تعرفني

والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي من به صممُ

حالتان من تحدي الواقع فريدتان، تفتقت عنهما قريحتان جبارتان تزهوّان بعجزهما الدنيوي وتقفزان إلى حيث الخلود والأبدية.

إبداع سمته هياج في العواطف واضطراب ربما في الوعي على أرضية من النقاء الذهني قلّ نظيرها. فكلا الرجلين كان أشبه بمن يمشي على حبل دقيق يتمايل يمنةً ويسرةً من دون أن يقع البتة.

هكذا كانت موسيقى بيتهوڤن وشعر المتنبي، تقلّبٌ دونما سقوط وتهوّرٌ يعرف وجهته ومؤدّاه.

في مشهدٍ أخير يقف بيتهوڤن الأصمّ على خشبة المسرح بعدما اختتم سمفونيته التاسعة، معطياً ظهره لجمهورٍ مضطرب هائج، وسط قاعة تغص بالصراخ والتصفيق، غير مكترث أو سامعٍ للصخب الذي أثاره بموسيقاه. ويلفظ المتنبي أنفاسه مقتولاً في وادٍ مقفرٍ ، بصمت تاركاً خلفه شعره الذي لا يزال يملأ الدنيا ويشغل الناس صخباً وضجيجا.

أنامُ ملء جفوني عن شواردها

ويسهر الخلقُ جرّاها ويختصمُ.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى