السلسلة… ومعركة الرئيس برّي

أسامة العرب

المجلس النيابي سلطة مستقلّة ومنفصلة عن السلطات الأخرى، تُتيح له تشريع ما يرتئيه مناسباً من قوانين مالية، وتالياً لا يجوز ربط إصدار القوانين الضريبيّة بإقرار الموازنة وقطع الحساب، فضلاً عن أنّ الموازنة تشمل نفقات وإيرادات الدولة لسنة واحدة ولا تشمل تعديل قوانين ضريبيّة قائمة بلا جدول زمني يحدّد صلاحيّة انتهائها، وتالياً تعديلها يستلزم تعديل القانون بقانون.

وليس هناك أيّ نصّ بالدستور يمنع فرض الضريبة من خارج الموازنة، إذ إنّ المادة 81 من الدستور تنصّ فقط على أنّه «لا يجوز إحداث ضريبة ما وجبايتها في الجمهورية اللبنانية إلّا بموجب قانون شامل تطبّق أحكامه على جميع الأراضي اللبنانيّة من دون استثناء»، أيّ أنّ المادة السابقة لا تفرض بأن يتمّ إقرار قانون الضريبة إلّا بقانون شامل، من دون أن تلزم بأن يكون هذا القانون من ضمن الموازنة.

أمّا المبادئ المتعلّقة بسنويّة الموازنة وشمول الموازنة وشيوع الموازنة، والتي أخذ بها المجلس الدستوري لإبطال قانون الضرائب، فلا تستطيع أن تقيّد سلطة المجلس في فرض القوانين الماليّة لا من قريب ولا من بعيد، ولا تستطيع أن تقيّد سلطة رئيس مجلس النوّاب بتفسير الدستور، وهذا الأمر يبدو واضحاً من صراحة نصّ المادة 83 من الدستور «في كلّ سنة في بدء عقد تشرين الأول، تقدّم الحكومة لمجلس النوّاب موازنة شاملة نفقات الدولة ودخلها عن السنة القادمة، ويقترع على الموازنة بنداً بنداً»، ومن صراحة نصّ المادة 86 «إذا لم يبتّ مجلس النوّاب نهائيّاً في شأن مشروع الموازنة قبل الانتهاء من العقد المعيّن لدرسه، فرئيس الجمهوريّة بالاتفاق مع رئيس الحكومة يدعو المجلس فوراً لعقد استثنائي يستمرّ لغاية نهاية كانون الثاني لمتابعة درس الموازنة، وإذا انقضى العقد الاستثنائي هذا ولم يبتّ نهائياً في مشروع الموازنة فلمجلس الوزراء أن يتّخذ قراراً، يصدر بناءً عليه عن رئيس الجمهورية، مرسوم يجعل بموجبه المشروع بالشكل الذي تقدّم به إلى المجلس مرعيّاً ومعمولا ًبه، ولا يجوز لمجلس الوزراء أن يستعمل هذا الحق إلّا إذا كان مشروع الموازنة قد طُرح على المجلس قبل بداية عقده….«

إنّ تقييد سلطة المجلس بفرض القوانين الماليّة، سوف يفتح الباب في المستقبل القريب على إعادة النظر بقوانين ماليّة أخرى تقرّ بالطريقة ذاتها، ويؤدّي إلى اعتبار أنّ كلّ الحسابات الماليّة للدولة منذ عام 2006 وحتى اليوم كانت غير دستوريّة بحجّة عدم احترام مبدأ سنويّة وشمول وشيوع الموازنة، ويؤدّي إلى إضعاف رقابة المجلس النيابي على أعمال السلطة التنفيذيّة ويمهّد دوماً للوصول إلى تسويات لإقرار قطوع حسابات تسوويّة، تمهيداً لإمرار القوانين الضرائبيّة من خلال الموازنة.

من المعيب أن يتمّ الربط ما بين إقرار الموازنة وقطع الحساب، وبين إصدار قانون يلغي قانون السلسلة لتفجير الوضع الاجتماعي في البلد بعدما باتَ قانون السلسلة حقّاً مكتسباً للموظفين والمعلّمين والعسكريّين والمتقاعدين الفقراء ومحدودي الدخل.

ومن المعروف بأنّ الرئيس برّي يقف إلى جانب طبقة الفقراء في مواجهة جشع المصارف، ويحرص على السير قُدُماً بقانون السلسلة بالرغم من إبطال المجلس الدستوري لقانون تمويلها، وذلك لتحسين الوضع الاجتماعي للطبقات المهمّشة والتي ترزح تحت خط الفقر، ولتمكينها من تعليم أولادها، وتقليدهم وظائف مختلفة، لكي يصبح منهم الأطبّاء والمهندسون والمدرّسون والقضاة وضباط الشرطة، ولكي لا تبقى وظائف المناصب المهمّة بيد الطبقات الثريّة.

بكافّة الأحوال، انتصر الرئيس برّي أبو الفقراء عندما رفض الرضوخ لضغوط السياسيّين والهيئات الاقتصاديّة من أجل تطيير السلسلة بذرائع واهية، كالذرائع التي تهدف للربط ما بين مكافحة الفساد وبين مكافحة الجشع المصرفيّ، في حين يعلم القاصي والداني في هذا البلد بأنّ الفساد هو سرطان منتشر ومستفحل، يصعب التوافق على قوانين من شأنها أن تكافحه خلال الفترة الوجيزة المتبقّية من ولاية المجلس النيابي، الأمر الذي سيضع الجميع أمام مأزق وأزمة، في وقت تتّجه الأنظار لإجراء الانتخابات النيابيّة على أساس قانون انتخابي عصري ولإعادة تجديد الدم في المؤسّسات الدستوريّة.

كلّ الحقيقة أنّ المصارف التي تحقّق أرباحاً تجاوز خمس مليارات دولار ونصف المليار سنوياً، لا ترغب بأن ينتقص من أرباحها السنويّة 150 مليون دولار فقط، لكي لا تساهم في تأمين قوت المحتاجين والجائعين والمهمّشين اللبنانيّين. والجميع يعلم بأنّ أرباح المصارف تذهب مباشرةً نحو شراء سندات خزينة أو شراء العقارات، لا سيّما أنّ أكثر من 85 من الشركات المصرفيّة هي عائليّة، وبالتالي في الحالتين لا يقوم أيّ منهم بعمل إنتاجيّ مثمر. في المقابل، فإنّ الفقراء والأسر ذات الدخل البسيط إذا ما ارتفع دخلها، فإنّها بدل الادّخار تقوم بالإنفاق على التعليم والسكن وأساسيّات الحياة، ما يجعلها أكثر فائدة للإنتاج وللاقتصاد الوطني. وبالتالي، فإنّ توزيع الثروة بين الأغنياء والفقراء، هي التي تحسّن فرص المساواة وتؤدّي إلى إنتاجيّة أكبر للاقتصاد ككلّ.

والمشكلة الكبرى، أنّ معاناة الفقراء تزداد يوماً بعد يوم، فمنهم من ليس له مأوى، ومنهم من لا يملك قوت يومه، وأكثرهم بلا عمل، وتتغاضى الهيئات الاقتصاديّة عن سماع أنينهم وأوجاعهم وآلامهم. أمّا البطالة، فقد ارتفعت نسبتها إلى معدّلات قياسيّة، وخاصة في السنتين الأخيرتين، حتى وصلت إلى حوالى 40 في المئة، وهي أعلى من ذلك أيضاً بين خرّيجي الجامعات الجدد الذين يصعب عليهم إيجاد فرص العمل بسهولة، حيث تصل إلى 50 في المئة. أمّا البطالة المقنّعة، والتي تعني عمل المواطنين بوظائف غير تلك التي تأهّلوا لها وبرواتب أقلّ بكثير ممّا هو متوقّع لهم، فتصل إلى حدود 80 .

هؤلاء الفقراء من فلاحين، وعمّال وأجراء وسائقين وحرفيّين ومتعطّلين تزداد أعدادهم يوماً بعد يوم، وهو ما ينبئ عن اقتراب وقوع أزمة اجتماعيّة وسياسيّة رهيبة، من شأنها أن تزيد الهوّة بين الطبقات الفقيرة والطبقات الثريّة بعدما بلغت نسبة الرازحين تحت خط الفقر في لبنان 40 في المئة بحسب تقديرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والذي يُتوقّع أن يبلغ عددهم 3,3 مليون محتاج قريباً.

يقول الإمام علي كرّم الله وجهه: «إنّ أقذر الذنوب، حرمان الأجير من أجره»، وألا يشكّل حرمان العامل من حقّه بالسلسلة حرماناً للأجر، وألا تجدر بأن تكون لقمة الفقير عوضاً عن أرباح المصارف خطاً أحمر، وفيما يجاهد ربّ الأسرة ليحصل على سبعمئة أو ثمانمئة ألف ليرة ليطعم أفراد عائلته ويسدّد إيجار منزله ويدفع أقساط أولاده، ترى المصارف تجاهد بتركيب فوائد سندات الخزينة المركّبة على الفوائد المركّبة، حتى بلغت فوائد الدّين العام السنويّة أكثر من 5 مليارات دولار، تُجبى من جيوب العاطلين والجائعين والمحرومين والمظلومين والمهمّشين بدون أدنى شفقه أو رحمة.

وأخيراً، إلى دولة الرئيس نبيه برّي، إنّ ما تقوم به يا دولة الرئيس هو من أجل الخير، ومن أجل إدخال الفرحة والسرور إلى قلوب المحتاجين الذين يجب أن يعيشوا بكرامة كما باقي الناس. إنّ مساعيك هي التي تجعل من الأجير مواطناً له حقوق وواجبات، ومن الضعيف ندّاً للقويّ وليس مجرّد تابع، أو مستخدم لإقطاعي لا قيمة له. شكراً لك على كلّ ما أنجزته وقدّمته طوال ربع قرن من المعارك المستمرّة من أجل مساندة المحرومين والضعفاء.

محام، نائب رئيس

الصندوق الوطني للمهجّرين سابقاً

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى