حدود خارطة «القرين» في شعر قيس بن الملوّح وحياته
أحمد الشيخاوي
تداويتُ من ليلى بليلى عن الهوى
كما يتداوى شاربُ الخمر بالخمرِ
ألا زعمت ليلى بأن لا أحبّها
بلى والليالي العشر والشفع والوترِ
بلى والذي لا يعلم الغيب غيره
قدرته تُجري السفائنَ في البحرِ
بلى والذي نادى من الطور عبده
وعظّم أيام الذبيحةِ والنحرِ
لقد فُضّلتْ ليلى على الناس مثلما
على ألف شهر فضّلتْ ليلةُ القدرِ
لا أحسبُ مخلوقاً، على هذا الكوكب، كائناً من كان، ينجو من سحر هذا «المجنون» كأقصى ما تكون الدغدغة، ملء قلب متيّم مثقل بأوجاع العشاق، وجوارح مصفّقة للعذرية والعفّة في اختلاجة وطمأنينة ويقين.
هذه السيرة المطرّز لخمائلها اشتعال اللوعة، ليس من طرف واحد، بل لتحكم بعض ظروف الخارج في علاقة أجهضت في فترة انرسام ملامحها الأولى، واحتضرت في مهدها، ليكون الاكتفاء، لاحقاً، بثيمة إنسانية وشعور سام اسمه الحب، في أبعاده الرمزية فقط، علّم أسلوبية ما فوق الغزل من غزل، كما أتاح مسافات قزحية للتلاقح الروحي لا أكثر، وميلاد قصة درامية غرامية تشرّبت من ينابيع الغرائبية حدّ الرواء، قامت على أنقاض لحظة تبخّر الحلم، بالاختفاء المفاجئ لـ«ليلى» العامرية الحقيقية، بوصفه غياباً في مرايا التجلّي.
إن «ليلى الرمز» ها هنا هي الخلفية والمدخل الصحيح لشعر وحياة هذا العاشق النجدي المجنون 24هـ/645م ـ 68هـ/688م . لعلّها البؤرة المدشّنة لسيرة لم نزل نشنّف بها أسماعنا، قد نصادف تشظياتها هنا وهناك، لتلفحنا بوهج المعاناة، والبطولة المتكئة على فرادة عزف الوجع الممجّد للمحبوب.
ليلى الثانية المعنية باهتمامنا هنا، هي التي تغذي جغرافية تجليات القرين، وتسعف في انتقال تفاصيل الحالة الأسطورية هذه، إلى المتلقي، لمجرّد احتكاك مبدئي بأشعار المجنون، أو تقمّص نوبات العشق الممكن أن تحدثها صدمات الشفهي والموروث المتناقل عبر أجيال بهذا الخصوص.
إننا ننام ونصحو على إيقاع نبضك العاشق يا قيس، فبقدر ما هو تجربة صادقة جداً وإخلاص للقصيدة الموزونة المقفاة، الجارية على بحر الطويل في معظمها، هو ملمح ماضوي طاعن بغواية معجم أسفار الأنوثة الموازية لعالم الدهشة، واستدرار القابع أو الخامل في تراث الوجدان العربي.
قضاها لغيري وابتلاني بحبّها فهلّا بشيء غير ليلى ابتلانيا
وخبّرتماني أنّ تيماءَ منزل لليلى إذا ما الصيفُ ألقى المراسيا
فهذي شهور الصيف عنّا قد انقضت فما للنوى ترمي بليلى المراميا
فلو أنّ واش باليمامة داره وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا
وماذا لهم لا أحسن الله حالهم من الحظِّ في تصريم ليلى حباليا
وقد كنتُ أعلو حبّ ليلى فلم يزل بيَ النقض والإبرام حتّى علانيا
فيا ربّ سوّ الحبّ بيني وبينها يكون كفافاً لا عليَّ ولا ليا
فما طلع النجمُ الذي يُهتدى بهِ ولا الصبح إلّا هيّجا ذكرها ليا
ولا سرتُ ميلاً من دمشق ولا بدا سهيل لأهل الشام إلّا بدا ليا
شعرية ترتع على اللامحدود الطللي، وتضرم فتيلها طقوس معاشرة ليلى المتوهَّمة أو الملهمة، تتمرد من خلالها وتشمخ الذات الشاعرة، دونما اجتراح لمواقف معارضة الناموس الإلهي، و دونما إبراز لأدنى مستويات العدوانية والتذمّر الميؤوس منه، إزاء المكتوب وسائر ما تخطّه ريشة الأقدار.
إذ الملاحظ أنه غالباً ما يستسلم القلب، لمجرد العثرات الأولى التي قد تحول دون الظفر بفؤاد وقبول الخلّ، وربما قاد الفشل العاطفي المبكر إلى نهايات كارثية تبلغ سقف الانتحار، بيد أنّا نلفى صاحبنا، ها هنا، وقد اخترم نوافذ روحية عميقة من حيث دماثة الإطلالة والامتداد الفكه والنفاذ الإستطيقي إلى حيوات موازية، ولّدت ما ولّدت من أساطير يانعة الرؤى معسولة القطف المجرّد، حول العشق المستحيل وعجائبية مناحيه.
أبى المجنون، منذ البدء إلّا أن يشهر وجده، مكسّراً منظومة من القواعد الطاغية وقتذاك، وآثر أن يظلّ أسيراً لـ«ليلاه»، ناقلاً المعركة إلى أفلاك البرزخية والحلم، وإلّا كيف كنا سنحظى بمثل تلك الروائع في أدبيات الغزل والفجيعة الوجدانية، المنقوشة بماء من ذهبن في الوعي العربي والإنساني على حدّ سواء؟
خليليّ مدّا لي فراشيَ وارفعا وسادي لعلّ النوم يُذهبُ ما بيا
خليليَّ قد حانتْ وفاتي فاطلبا ليَ النعش والأكفان واستغفرا ليا
وإن متُّ من داء الصبابةِ بلّغا نتيجة ضوء الشمس منّي سلاميا
دعا بِاسم ليلى غيرها فكأنّما أطار بلبّي طائراً كان في صدري
دعا بِاسم ليلى أسخن الله عينه وليلى بأرض الشام في بلد قفر
وقد أرسلتْ ليلى إليَّ رسولها بأنِ ائتنا سرّاً إذا الليلُ أظلما
فجئتُ على خوف وكنتُ معوذاً أحاذر إيقاظاً عُداة ونوّما
فبتُّ وباتتْ لم نهمّ بريبة ولم نجترح يا صاح والله محرما
وكيف أعزّي القلب عنها تجلّداً وقد أورثت في القلب داء مكتَّما
فلو أنها تدعو الحمام أجابها ولو كلّمتْ ميتاً إذاً لتكلّما
ولو مسحتْ بالكفّ أعمى لأذهبتْ عماهُ وشيكاً ثمّ عاد بلا عمى
منعّمة تسبي الحليم بوجهها تزيّنُ منها عفّة وتكرّما
فتلك التي من كان داء دواؤه وهاروتُ كلّ السّحرَ منها تعلّما
وناديتُ يا رحمنُ. أوّل سؤلتي لنفسيَ ليلى ثمّ أنت حسيبها
وإن أُعطى ليلى في حياتي لم يتبْ إلى الله عبد توبة لا أتوبها
يقرّ لعيني قربها ويزيدني بها عجباً من كان عندي يعيبها
أراني إذا صلّيتُ يمّمتُ نحوها بوجهي وإن كان المصلّى ورائيا
وما بيَ إشراك ولكنّهُ حُبّها وعظمُ الجوى أعيا الطبيبَ المُداويا
ما بالهُ تاريخ العشق، لا يسجّل أمجاده على بياض وبكارة أبدية؟ متى حالفته حظوظ عدم الوقوع في فخاخ المفبرك والمقنع الزائف.
بقدر ما يضمّخها بدم الأوردة وفناء وجنون العشاق ورماد القلوب، يصعد غير مكترث، على الأكتاف ليكثّف ويضغط مخزونه بمزيد من الصفحات الأكثر عنفواناً وإشراقاً تواكلاً واتّكالاً لا كدّاً وجهداً وعناء وتوكّلاً.
تاريخ يصقل قممه عن طريق سرقة ونسب جهود الرموز والفرسان والخارقين، إليه. سرق من المجنون، ليستأسد في مسرح الحياة عبر تقديم عروض منقّحة ومزيدة وقابلة للصياغات تبعاً لهيمنة منسوب الحساسيات وتراتبية الأجيال وتلاحقها.
هكذا، وفي دورة كاملة، مجراها مثلما مرساها خلفية القرين، تماماً كما أسلفنا، استطاع شاعرنا الفطحل والفحل هذا، على نحو سلسل مهادن لكنّه مبطّن ومزدان بدرر وأسرار المحجوب والمستور، استطاع وبجدارة وندرة إرباكية، جذبنا إلى نقطة ضوء، جمّعتها مرايا الانتماء إلى سرب المحبّين، لا تتطاول على المقدّس، ولا تنغمس في جرد فصول المدنّس، عدل ما تستغرقنا بدوال البوح الخليلي، والعروض الفائضة بجملة معاني إنسانيتنا العاشقة.
كابد قيس ما كابده، ومتيّماً قضى نحبهُ، لتعيش أنثاه الرمزية، عبر قصيدة خارج الزمن وأوسع من الذاكرة، وأقدر على تلبية فضول كلّ مسكون بوجع سرديات الهيام داخل حدود التراث الأدبي الإنساني.