رواية «إشراق العشق» لزياد حميدان… جدل الفكرة ما بين المطلق والنسبيّ!
نصّار إبراهيم
«لا تخشَ البديهي من الأسئلة، فتلك هي التي تحتاج إلى التمعّن في الإجابة عليها أكثر من غيرها… ولا تلتفت خلفك إلا لأمرين: لتنظر إلى عشق تظنه محتمَلاً أو لتنظر إلى احتمال تظنّه عشقاً» إشراق العشق .
«إشراق العشق»، العمل الروائيّ الأول للصديق زياد حميدان. صدرت الرواية عن «دار الحلبي للنشر» ـ الرباط ـ المغرب، وفي الوقت ذاته عن «دار غيداء للنشر والتوزيع» ـ عمّان ـ الأردن 2017.
وبحكم العلاقة شبه اليومية مع زياد، فقد تابعت ولادة هذا العمل الأدبي مذ كان جنيناً أو بذرة قيد البذار، ثم تجلّى في النهاية على شكل هذه الرواية الجميلة.
قبل أن أبدأ الكتابة، أعدت قراءة النصّ بهدوء، تأملت سياقاته وفضاءاته الثقافية والفكرية والفلسفية، تأمّلت شخوصه، وحركة أفكاره في تجلياتها ومستوياتها المختلفة. ومن جديد، وجدتني أُدهَش من كثافة الأفكار وتدفقها وعمقها وحيويتها.
لم يذهب الكاتب إلى عمله الروائي هذا من الفراغ أو من نقطة الصفر، فأنا أعرف أنه قارئ جيد للأدب والدراسات الاجتماعية، يتمتع بعقل نابه، وقدرة عالية على طرح الأسئلة، كما يستند أيضاً إلى تجربة لافتة في الحقل السياسي والبحثي كحائز على شهادة الماجستير في علم الاجتماع، وأعرف انه ينشغل كثيراً في أسئلة الخطاب والتراث والدين. كل هذا شكّل ركيزة استناد قوية لكي يقدم على هذه المغامرة الجريئة.
«إشراق العشق»، تجربة سردية انبنت على توظيف الفضاء الصوفي في إطلاق الحوار وجدل الأفكار، لكنها تجاوزت ذلك لتشتبك مع أبعاد وأسئلة فلسفية ووجودية عميقة، أسئلة تشغل عقل الإنسان منذ الأزل، فكان يعيد طرحها ويعيد بناء الإجابات عليها بما يعكس قلق الإنسان وحركة وعيه في الزمان والمكان المتغيرين باستمرار.
لقد حرر الكاتب نفسه في هذا العمل من قيود النص المغلق والأحكام القاطعة، فجاءت الحوارت أقرب للجدل الداخلي مع الذات بكامل حريتها وانفتاحها على احتمالات الفكرة. فراحت تحلق وتناور وتختبر ذاتها كما تشاء.
ولكي يوفر الكاتب الشروط المطلوبة لهذه الحرية ويقودها نحو غاياتها، فقد نقل أحداث الرواية وشخوصها لتجري بعيداً في البراري، في الجبال، في كهوف قصية، في بيئة أقرب للعزلة بعيداً عن أيّ تأثيرات جانبية. لهذا جرى أستحضار وتوظيف الشخصيات أو الأمكنة أو الوقت كفاعل أو شخصيات ثانوية، أو لنقل كوسيلة إيضاح لخدمة الفكرة لا أكثر. ذلك لأن الشخصية المحورية في «إشراق العشق» كان جدل الفكرة ذاتها، وما الشيخ والمريد وغيرهما من شخصيات في هذا العمل الروائي سوى أداة فعل لتقديم حالة الجدل هذه.
هذه البنية/ التقنية السردية بشخوصها ومكانها ووقتها ولغتها الرمزية الفلسفية كانت وسيلة الكاتب لكي يتجاوز القيود والضوابط التي تثقل الواقع المحدد بما هي قيود سياسية أو دينية أو اجتماعية أو اقتصادية تكبل شخصيات العمل الروائي فتبقيها محاصرة بمحدوديتها وبوعيها الأناني الضيق أو بقناعاتها الإيمانية المنغلقة أو بهمومها وأسئلتها الضيقة.
لهذا نلاحظ أن الشخصيات في «إشراق العشق» هي شخصيات منفلتة من الواقع والعلاقات اليومية الملموسة، إنها شخصيات أفكار أكثر مما هي شخصيات واقعية: الشيخ والمريد، المجذوب ثم الذئب والضبع. وامرأتين أقرب للفكرة مما هما حقيقة واقعة وملموسة. فلا أسماء للشخصيات، ولا سمات لها سوى تحررها من أي قيد. ولهذا فقد عبرت تلك الشخصيات عن الأفكار بكامل الحرية.
لهذا السبب العميق فإن الرواية تبدأ بكسر القيود، يتجلى ذلك ومنذ البداية في صدمة العلاقة الجنسية التي جرت، سواء بصورة حقيقية أو متخيلة، ما بين القطب العارف وامرأة مدهشة الجمال انبثقت من مكان ما، فأسقته نبيذاً وبعد أن تم التواصل اختفت إلى الأبد من دون أن يعرف من هي ولا من أين جاءت ولا أين مضت: «نظرت في عينيه البنيتين لحظة ثم قالت عيناها الحوراوان: إشرب، ففعل. تنهد، ثمّ تساءل وهو في قلق مقيم منذ تلك الليلة التي لا يذكر بقيتها بعد سحر النبيذ: كيف أشعلت أعماقه المعتّمة مذ وُلِد في المهد صبياً؟! أتُراها تكون نبية، أم أميرة من بلاد الجن بُعِثت إليه؟». ص 8 .
هذا الحدث الابتدائي، الذي قد يبدو عابراً، كان ضرورياً لتمهيد الطريق أمام الحوار والأسئلة والإجابات لكي تكون حرة تماماً، فلا تتقيد بالتابوات والمحرمات والممنوعات، فالشيخ هنا لا يعود شيخاً بالمعنى المنغلق، لهذا كان الفعل الجنسي العابر شرطاً لكي ندرك أننا ندخل فضاء حراً من أي قيود سوى احترام الفكرة في حالات تجليها الشاملة واللانهائية.
إذن، «إشراق العشق»، بنية سردية منفتحة من حيث شخوصها وأفكارها، فهي تبدأ بالشيخ الذي كان مريداً يتبع القطب العارف، فيطرح عليه الأسئلة، ليتلقى الإجابات ويراكم المعرفة، ليصبح في ما بعد شيخاً بمقدوره التعامل مع أسئلة مريد جديد سيثير بدوره أسئلة جديدة، ثم يرحل هذا الشيخ ليصبح المريد شيخاً يتعامل مع الأسئلة التي تولد من جديد يتبعه مجذوب سيصبح ذات يوم بدوره شيخاً. وهكذا تستمر العملية بما هي استجابة لحركة الواقع وتغيره بما يستدعي مجابهة الأسئلة الناشئة، وتقديم إجابات جديدة لا تقطع مع ما تراكم من إجابات سابقة، بل تشكل بصورة ما استمراراً لها ولكن في سياقات ومستويات جديدة… وهكذا.
ولكي يستقيم النص مع فكرته الناظمة هذه، كان من الطبيعي الانطلاق من الإنسان وهو في حالة بداياته الأولى. وجدله الأول مع ذاته ومع محيطه، من هناك تبدأ الأسئلة يقودها منطقها الداخلي الحر… «تبسّم الشيخ وقال: في البدء كان الإنسان وحشاً تهابه الضواري في البرية، حين تتجرد من كل شئ تعود للأصل. عليك بصقل ذلك الأصل كي لا تعود وحشاً». ص 40 .
هكذا أسس الكاتب شروط تحرير النص من أي قيد سوى جدل الفكرة وحركتها.
انطلاقاً من ذلك يمكن مقاربة رواية «إشراق العشق» ووعيها، وغير ذلك سيكون السقوط في مصيدة المحدود والسطحي.
في «إشراق العشق» يبدو، للوهلة الأولى، وكأن النقاش يدور حول فكرة أو مفهوم العشق بالمعنى المباشر، أي مجرد نص يتعامل مع مفهوم العشق بالمعنى الضيق للكلمة، قد تكون الرواية في بعض مستوياتها تناقش هذا البعد، غير أن هناك قراءة أخرى تذهب أبعد بكثير من هذا المباشر، فمفهوم العشق في هذا العمل يتجاوز المحدود والضيق ليصبح معادلاً لحقيقة الواقع بما هو عشق البحث عن الحقيقة، السعي للمعرفة ووعي الذات والواقع بالمعنى الشامل والحر، في هذه الحالة فإن مفهوم العشق يصبح منفتحاً على احتمالات لانهائية: فهو يشمل الحب بمعنى الإيروس – Eros ، السياسة والتباساتها، الإنسان في علاقته بالمكان والزمان، الفعل والممارسة، العلوم، الدين والروحانيات، حركة الوعي في العقل، الموت والحياة، الأمل واليأس، الممكن والمستحيل، الصدفة والضرورة. هذه الفكرة الناظمة يعكسها الحوار التالي بكثافة:
«ـ فما هي صنوف العشق؟ قال المريد.
ـ عشق حالم لقلب غضّ، وعشقٌ يقاتل العقل دونه ليحياه، وعشق تبحث عنه أبد الدهر، قال الشيخ.
ـ ما هي أبواب العشق؟ قال المريد.
ـ قال الشيخ، سبعة:
ما بين امرأة ورجل، وهذا أوّل باب،
ثانيهما ما كان بين سلطة ورعية،
الثالث ما كان بين بشر ومستقرّ،
الرابع باب يكون ما بين فارس وقلب شجاع،
الخامس ما كان بين عالم وعلم،
سادسهما ما كان بين ناسك وصومعة،
أما السابع فما كان بين حكيم وعقل.
ـ أيّ عقل تعني؟ قال المريد.
ـ ردّ الشيخ: العقل بكل درجاته وصنوفه.» ص 50 .
هذه الفكرة التأسيسية كانت بمثابة المنصة أو خشبة المسرح التي يدور عليها الحوار ما بين المريد والشيخ، هذا يعني أن مفهوم العشق في هذا العمل الروائي منفتح على احتمالات الواقع كلها، بل وكثيراً ما كان يتحرك ما بين المتناقضات لكي يتوازن، ولأن الأمر بهذا الاتساع والتنوع من أسئلة واحتمالات وفرضيات فقد كان بالإمكان الاستمرار في هذا الحوار الجدلي بصورة سيبدو معها وكأنه حوار لا ينتهي، ذلك لأن جدل الواقع بأبعاده وعناصره المعلنة والمضمرة وحركته المطلقة هي حالة لا نهائية، إنها عملية مستمرة في المكان والزمان، بما يعيد دائماً تأويل نص ذلك الواقع بما هو ناس وعلاقات ووعي ومكان وزمان وأفكار ومصالح.
الإطار الناظم لهذا الحوار هو الجدل الدائم ما بين المطلق والنسبي، الحركة كمطلق والسكون كنسبي، ما بين المحدد والمعنى، ما بين الفكرة ونقيضها، ما بين الفكرة وتمامها، بين الشكل والمضمون، بين السبب والنتيجة… بين الخاص والعام… وهكذا يمكن القول أن جوهر هذا النص هو الألحاح على جدل الفكرة كمطلق.
في هذا السياق تتجلى ثنائية العاشق والمعشوق في رواية «إشراق العشق» فهما يتبادلان الأماكن والأدوار والأسئلة والتفاعل، حتى يتوحدا معاً ليصبحا جوهراً واحداً، بمعنى وحدة الأضداد، فلا عاشق من دون معشوق، لا بل إن العاشق هو ذاته المعشوق، ضمن هذه الحقيقة يتفاعل المفهومان ليكشفا عن جمال التكامل بينهما. فذلك هو الطريق للاقتراب من الحقيقة والسلام الداخلي الاتحاد مع النقيض في الجوهر، وإلا هو التناقض القلق والمؤلم الذي لا ينتهي:
«ـ قال المريد: العاشق أنت أو لا أحد، فمن معشوقك؟
ـ الشيخ: هذا ما يجب عليك أن تجيب عنه في نهاية الأمر. كل منا له عشقه ومعشوقه، لكن العشق هو الأهم في ذاته ولذاته». ص 25 . و«كيف أحوز الإيمان، قال المريد. ما لم يكن شكّك وعشقك أبدياً فلن تؤمن… قال الشيخ». ص 41 .
ومع ذلك فأن الأفكار وهي في حالة جدليها الداخلي والخارجي هذا لا تولد من الفراغ أو العدم. بل هي بنت الواقع أثناء محاولاته التي لا تنتهي للوصول إلى التوازن والاتزان في حركته ما بين المطلق وتجلياته في النسبي، فيما يحاول النسبي من جانبه أن يجد ذاته في هذا المطلق المستمر، لهذا كان الكاتب وعلى لسان الشيخ يعيد تذكيرنا بأن هذا التفاعل بمختلف تجلياته وحركته يدور بين أربعة أبعاد: العقل، القلب، الروح، الجسد.
وعي هذه الفكرة جيداً، يكشف لنا الكثير من خفايا هذا العمل الروائي ويضعها في سياق رصين وعميق، أساسه جدل الفكرة اللانهائي في الواقع فـ«أزلية الوجود هي الأسئلة والإجابات» كما يقول الشيخ. ص 23 .
«قال المريد: ما جوهر الأسئلة؟
ـ هوس مقيم، قال الشيخ.
ـ المريد: فما الأجوبة؟
ـ رضا إلى حين، قال الشيخ». ص 30 .
وبما أن كل إنسان لديه أسئلته الخاصة ومكانه وعلاقاته وزمانه ووعيه وقدراته الخاصة ومصالحه واحتياجاته وغرائزه في سياق وجوده، إذن سنكون بالضرورة أمام الإنسان في حالات وتنوع وجوده وتفاعله الذي لا حصر له، وكل حالة من هذه الحالات لها أسئلتها وإجاباتها المتنوعة من حيث منطلقاتها ومستويات عمقها وجدلها… يقول: «فما هي أسرار الحياة؟ قال المريد. أجاب الشيخ: خمسةٌ هي، وأما الأول فهو أنت، فابحث بداخلك، وأما الثاني فهو نصفك الآخر، ففتش عنه، وأما الثالث فهو الكون فتمعن فيه، وأما الرابع فهي أحلامك فاشطح بها، وأما الخامس فهو سِرٌّ لك حرية اختياره». ص 33 .
لنلاحظ هنا تحرك وتفاعل هذه الأبعاد بين الخاص والعام، ولننتبه بصورة خاصة للسر الخامس الذي يعني في العمق إبقاء الاحتمالات مشرعة ومفتوحة بصورة دائمة.. فإغلاق المساحات في وجهها من خلال تقديم إجابة نهائية وقاطعة في لحظة ما، يتناقض مع الحركة الطبيعية التي لا تتوقف في الواقع.. وفي حال حدوث ذلك فإنه يعني موت الإنسان والفكرة معاً.
هذه الفكرة هي التعبير العميق عن سعي الإنسان منذ الأزل لوعي ذاته ووعي الجدوى من وجوده، في سياق سعيه الذي لا يتوقف نحو الحقيقة:
«ما الحقيقة؟ قال المريد.
ـ كل ما تعرف إلى حين قال الشيخ.
ـ ما الحق؟ قال المريد.
ـ ستراه في نفسك عشقاً.
ـ ما الباطل؟ قال المريد.
ـ ما لا تستسيغه نفس عاشق. قال الشيخ». ص 33 34 .
إذن نحن هنا أمام سلسلة لا متناهية من الحقائق، ذلك لأن حقائق الفكرة والوعي هي حقائق نسبية بالضرورة، فكل إنسان له خط أنطلاق يذهب منه نحو الحقيقة، ولكن بما أن الواقع في حركة مستمرة وفي حالة تغير لا تتوقف، إذن في كل لحظة سيكون الإنسان أمام حقائق جديدة وإضافات مجهولة تحتاج لمواصلة جهد الاكتشاف، هذه الفكرة عبر عنها بصورة جميلة الكاتب اليوناني نيكوس كزانتزاكيس في روايته «المسيح يُصلَب من جديد» حين قال بما معناه: سنبقى نطارد عصفور الحقيقة سنقترب منه باستمرار ولكننا لن نمسك به يوماً.
ومع ذلك فإن الكاتب في رواية «إشراق العشق» وبقدر ما يلح على جدل الفكرة وحركتها فإنه في ذات الوقت بقي مشغولاً بفكرة حرية الفكرة، إنه يذهب إليها بدأب وإلحاح شديدين. ذلك لأن كل هذا الجدل وهذه الرؤى والأفكار لن تجد طريقها للحياة والواقع إلا في فضاء من الحرية بما يتناقض تماماً مع القدرية والاستسلام. لهذا فقد كان الشيخ في مواجهة أسئلة المريد يعيده دائماً لنفسه، يعلمه أن يحررها وأن يثق بها، أن يؤمن بحدسه، إنه لا يقوم بتلقينه بل يعلمه منهجية التفكير الحر، يعطيه رأس الفكرة ملتبساً ويترك له حرية استخلاص الإجابة التي تناسبه، لهذا غالبا ما كانت اجابات الشيخ بداية لأسئلة جديدة.
«ـ ما الغيب؟ قال المريد.
ـ ما لم نحز القدرة على معرفته بعد… قال الشيخ.
ـ فما الروح؟ قال المريد.
ـ تدركها حين تذوب عشقاً… قال الشيخ.
ـ ما العقل؟ قال المريد.
ـ إدراك قلب قلق. قال الشيخ.
ـ ما القدر؟ قال المريد.
ـ هو المكتوب الذي نقترفه نحن. قال الشيخ». ص 33 .
إذن، المعادلة الناظمة في هذا السرد الروائي هي في حركة الذات الحرة أثناء تعاملها مع أسئلتها، فما تعيشه الذات هو نتيجة تراكمية لما تقوم بها تلك الذات بما هي فرد أو جماعة. بمعنى أن الأسئلة لا تقف حدودها عند العقل الفردي، فبما أن الإنسان هو كائن اجتماعي بطبعه، إذن فإن الأسئلة تعني أيضاً عقل الجماعة التي تبحث عن مصيرها في كل لحظة من لحظات الحياة.
هذه المقاربة استدعت حركة أبعد، تمثلت في شرط وعي أعماق الظواهر وعدم الوقوف عند سطحها والبحث في الصيروات والأسباب العميقة لها: «لا يكون النقاء ببياض الثياب، واعلم أن البياض أقرب وأسهل اتساخاً، لا يكون النقاء بالألوان. أرأيت أكثر نقاء من حلكة هذا الليل المتشح بالسواد؟». ص 29 .
غير أن تجاوز السطح نحو الأعماق يشترط قوة دافعة… تلك هي موهبة الشك كطريق لليقين.
«ـ كيف يكون عشقي يقيناً وأنا أحمل كل هذا الشك؟ قال المريد.
ـ قد قيل الشك طريق اليقين. ولكن ليست هنا المسألة! بل لأي يقين سيقودك الشك، يقين العقل أم يقين القلب ام يقين الروح؟ لذلك لكل منا يقينه الخاص. قال الشيخ» ص 34 . مرة أخرى يعيدنا زياد إلى جدل الخاص والعام، جدل العقل والقلب والروح. من هناك نقترب من الحقيقة ليبدّد الإنسان بعض شكوكه وليس كلها.. فهذا مطلب مستحيل.
لقد قدّم لنا الكاتب في «إشراق العشق» تجربة فريدة في جدل الفكرة والواقع، جدل العقل والروح، لقد قام بعملية تحطيم منهجية للقيود والكوابح العميقة التي تقيد أعماق الإنسان بسبب الثقافة والعادات والقيود الدينية والاجتماعية السائدة، ثم قدم لنا تجربة أو تدريباً في إعادة صوغ الفكرة والموقف من جديد، بحيث يصبح شرط البحث عن الحقيقة مرتبط بالقدرة على البحث في نقيضها، وهذا لن يكون إلا بامتلاك مهارة الحركة المفاجئة، وتغيير الاتجاه بصورة صادمة ربما… بهذا المعنى فقد كان الحوار كثيراً ما ينتقل من النقيض إلى النقيض، حتى يبدو وكأنه يبدأ من جديد، هذه السمة هي تعبير عن قلق الذات في تعاملها الحيوي مع الواقع والحياة في التباساتها اللانهائية:
«بجزع قال المريد: أخشى النهايات.
ـ ردّ الشيخ بهدوء: كل نهاية بداية.
ـ مؤلمة جداً تكون، قال المريد.
ـ بألم تكون الولادة نهاية حمل مرهق. لكنها بداية الحياة قال الشيخ.
ـ والموت نهاية مؤلمة لحياة، قال المريد». ص 91
بالضبط، ذلك نفي النفي في صيرورة التحولات والتغيرات، ولادة فموت فولادة، ولكن في سياق عملية الارتقاء الاجتماعي رغم فوضى الحواس وفوضى الوعي، فوضى القهر وفوضى القيود التي تحاول جهدها إحكام السيطرة على عقل الإنسان: «قال الشيخ: ليس الموت مجرد نهاية فقط… بل ذروة هذه الحياة، لو أدركت عظمة ما حزت من حياة لفرحت.
ـ تساءل المريد: أليس من المفترض أن يكون الخلود حياة؟هل يكون خلود عبر الموت؟ أي مفارقة هذه؟
ـ أجاب الشيخ: كل الاحتمالات مفتوحة أمامك، بيقين عش حياتك لتبتسم لحظة موتك والشك يملؤك.
ـ أيهما أجمل، لحظة الرحيل أم العودة؟ قال المريد.
ـ ما بينهما أجمل، قال الشيخ.
ـ لأي حياة نكون ممتنين أكثر… حين تكون الحياة فرصة تمنح لنا لمرة واحدة، أم حين نحظى بحياة ثانية من بعد موت وبعث؟ سأل المريد.
ـ بل لأننا حظينا بفرصة الحياة ذاتها أيّاً تكن، قال الشيخ». ص 92 .
هذه الجدلية الموغلة في الفكرة ترتقي بها لمستوى التجريد، بما يستدعي الابتعاد عنها كثيراً لرؤيتها والشعور بمفاعيلها، أو ربما الهبوط بها إلى قاع نهر الحياة لإدراك ما تحمله من مضامين.
هكذا يطلق الكاتب خياله حتى النهاية فيستحيل الموت شرطاً للحياة. فيما الحياة هي النسبي بالنسبة للفرد. وفي الوقت ذاته هي المطلق بالنسبة إلى الجماعة الإنسانية.
إنها ذروة التكثيف: «لأننا حظينا بفرصة الحياة ذاتها أياً تكن». هكذا تأخذ الحياة تجلياتها الجميلة التي تملأ تلك المساحة الواقعة ما بين الرحيل والعودة. هنا تولد الحكمة والمعرفة وتغتني التجربة. من دون ذلك سيكون السكون نقيض الحركة بما يعادل الموت. أي مرة أخرى موت الإنسان والفكرة معاً.
لهذا يذهب نصّ «إشراق العشق» نحو نهاية تشبه البداية، نهاية مفتوحة على إعادة طرح الأسئلة والبديهيات من جديد، ولكن في سياق صيرورة جديدة:
«ما إن أنهى الشيخ كلماته في الليلة العاشرة سأله المريد: هل أبقى؟ فقال الشيخ: حتى ينضب الزيت، ثم مشى متجهاً لباب الكهف. وقبل الولوج نظر في وجه المريد وقال: هذا ما عندي، وجِدْ لك بأرض مستقراً من بعدي، ثم غاب داخل الكهف. بصمت مطبق عاد المريد لمغارته مدركاً أن نهاية وبداية قد مرّتا أمامه». ص 99 .
هنا كانت نهاية الشيخ، ونهاية المريد معاً، ليولد شيخ جديد هو المريد ذاته، يتبعه مريد جديد بسؤال وشكّ قديمين جديدين:
«وفي اليوم العاشر لضياعه في الصحراء وقف المريد على تلّ من رمال بيضاء استقر هناك قديماً آتياً من أعماق الصحراء. جال بنظره من حوله، فرأى شبحاً أسود يسارع في المسير نحوه … فجلس على الرمل محملقاً في الشبح البعيد الذي يزداد اقتراباً. كان المجذوب يغني أنشودته وهو يقترب منه على بحر الرمل. حينها سار المريد تاركاً آخر بقاع الشرق مولياً وجهه نحو الغرب، فيما المجذوب على مرمى حجرين يسير خلفه». ص 102 .
في النهاية، لقد غامر زياد حميدان بخوض هذه التجربة بشجاعة، وفي النهاية نجح في بناء عمل روائيّ متماسك، وهذا يؤشّر لولادة كاتب لديه ما يضيفه ويقوله.