المقاومة الثقافية
أمين الذيب
قد يكون السؤال الأكثر إلحاحاً الآن، لارتباطه بشكل وثيق بما تعاني منه بلادنا من ويلات، شكّلت الحالة الأكثر ضراوة في التاريخ البشري، كون الحرب العسكرية لم تكن سوى حلقة من حلقاتها المُتشعبة، والتي طاولت حياة المجتمع المشرقي بكافة جوانبه الوطنية والقومية والسياسية والأمنية وأشدها فتكاً كانت الحروب الفكرية والثقافية، التي كان هدفها تدمير شعوب المنطقة ذاتياً، من خلال بث أفكار ومفاهيم، عبر وسائل متعدّدة منها السينما والتلفزيون والكتب والروايات والقصص، إلى أن ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي فكانت الأداة المُعممة الأكثر فعالية في تعميم مفاهيم التقسيم والتفتيت وزرع الشقاق بين المذاهب والطوائف والإثنيات، ولا نستطيع أن نُنكر هنا، أن مسألة ضعف الوعي القومي المُفترض أن يكون الجامع الموحّد للشعوب تحت سقف الولاء الوطني، تم الاستفادة منها لتعميم مفاهيم دينية تحريضية تكفيرية، وقيام جامعات ومدارس ومؤسّسات دينية، لعبت الدور المُناط بها في تدمير حضارة المجتمع بهدف إنتاج أجيال جديدة فاقدة الذاكرة القومية والوطنية تتحوّل تباعاً إلى لقمة سائغة بين أشداق الاستعمار الفاغر فاه.
هناك أمثلة كثيرة تدعم هذا الاستنتاج، ولكنّني أرغب في الإضاءة على بعض الوقائع التي لا تزال ماثلة أمام الرأي العام، خصوصاً المُتابع منه. حيث لا يمكننا أن نعتبر تدمير المعالم الثقافية والحضارية الموغلة في التاريخ أنها عمل تخريبي بسيط، نفّذته أفراد تكفيرية مُتفلّتة أو غير منضبطة في اللغة المتداولة. إن مُشاهدة تحطيم الثور المُجنّح وسواه من الآثارات كان يهدف إلى تدمير حضارة شاملة كانت مُؤسّسة للمدنية الإنسانية وقطع ذاكرة الحاضر والمستقبل بها، وأيّ شعب من دون ذاكرة حضارية هو شعب فاقد قدرته على التطوّر والتقدّم. والمثل الثاني، كان تفكيك بنية المجتمع الاجتماعية وتغيير الديمغرافيا وقتل العلماء والمفكّرين ورجالات دولة كبار، وكان نموذج الذبح والسبي وفتاوى جهاد النكاح عاملاً حاسماً في تدمير المنظومة القيمية والأخلاقية وتهشيم المُثل العليا للمجتمع، بتفكيكه من الداخل والعمل على تهجير المواطنين إلى أوروبا وأميركا لتفريغ البلاد من أهلها، وإيواء الهجمة الشرسة التكفيرية الوافدة كأداة لتنفيذ مشاريع أميركا و«إسرائيل» والماسونية التاريخية للهيمنة على موارد الدول، وحماية «إسرائيل» التي أصبحت مهدّدة في وجودها.
سؤال آخر يفرض نفسة للاستدلال على بعض النتائج التي نسعى إلى الإضاءة عليها، هل العمل العسكري والأمني والديبلوماسي يكفي لمواجهة المرحلة المفتوحة على كافة الاحتمالات، وأخطرها الآن التقسيم الذي أطلّ برأسه من كردستان وبدأت تداعياته تظهر ببعض الدعوات السنّية العراقية إلى الانفصال في ظلّ وجود من يعتبرها فرصة مناسبة، وهذا البعض يشكل أعداداً كبيرة من أبناء مجتمعنا الجاهزين إلى الإنخراط في فكرة التقسيم بضمانات «إسرائيلية» وإقليمية وغربية وأميركية.
الدلالة على أن العمل العسكري وحده غير كافٍ للانتصار، هو إعلان مسعود البرازاني الاستفتاء في لحظة الانتصارات التي يحقّقها كلا الجيشين العراقي والسوري ومحور المقاومة بشكل عام. إذن، لا بدّ أن نستكمل انتصاراتنا بقيام محور المقاومة الثقافية ليتصدّى لكافة المفاهيم التفتيتية والتقسيمية التي اعتمدت كما أشرنا إلى حشو عقول التكتلات الدينية والمذهبية بأفكار تخدم مشاريع الأعداء وتنفِّذها تلك التكتلات عن وعي أو غير وعي، ليس مهماً في هذه المرحلة المصيرية إلا مواجهته والتصدّي له.
إن تشكيل منصّات تبثّ فكراً جامعا مُوحِّداً بات ضرورة وجودية تتساوى مع العمل العسكري وتلازمه، كي لا نخسر في السياسة ما ربحناه في الحرب. إن إعادة لُحمة المجتمع أضحت مسألة طويلة وشاقة، وهي مسؤولية أخلاقية تقع على عاتق كل وطنيّ شريف، فإذا سقط المشرق تصحّرنا ودخلنا في آتون الموت الحضاري حيث لا قيامة لنا بعده. إن هذا المشرق المتنوّع في غناه الحضاري الثقافي ما زال في مرحلة قابلة للإنقاذ إذا ما توافرت إرادة المشرقيين على بعث نهضة تكفل إعادة بناء البشر قبل الحجر، فإذا نظرنا بعين فاحصة، نرى أنّ الأضرار الروحية والتنافر الحاصل بين أبناء المجتمع الواحد، أفدح بكثير من تهدّم المدن والبنى التحتية. لقد عمل مشروع «سايكس ـ بيكو» على تقسيم المنطقة إلى دول وشعوب، بينما مشروع الشرق الأوسط الجديد يعمل لتفتيت المُفتّت وتقسيم المُقسّم وبعثرة حضارة رائدة. لذلك، إنّ حجم المواجهة إذا لم يكن بحجم الأخطار لا يمكن لنا أن نصل إلى حياة تليق بقيمنا ومثلنا العليا التي نشأنا عليها.
شاعر وناقد