معركة الثقافة المقبلة تبدأ مع موعد مواسم الهجرة إلى الشرق!

فيينا ـ طلال مرتضى

ثمّة غسيل موارب البياض آن له أن يُنشَر. بالطبع لا ألوم مَن يقرأ فجاجةً في المطالع، فذلك يعتمد على حَدس المتلقّي وحُسن درايته القرائية بما يجول في الأرجاء السياسية أوّلاً، والتي سرعان ما تطفو نتائجها انعكاساً على المفرز الثقافي بناءً على أنّ السياسة والثقافة صنوان في خندق واحد.

ليس خفيّاً على أحد اليوم انقلاب الخارطة الجيوسياسة العالمية رأساً على عقب. وكي لا تتشعّب وجهة المقال، سأبقى داخل دائرتي الخاصة، وفي ما يقال بالعوام… «ملعبي»!

بدايةً، ثمّة سؤال لجوج يلحّ من دون كلل في مداركي هنا، وبوصفه ـ أي السؤال ـ حالة أضحت راهنة حسبما أتلمّس من حيث أنا وأراقب بكثب:

هل بدأت مواسم الهجرة نحو الشرق سورية تفتح أبوابها؟

ظلّ المعطى الجديد ومع تبدّل ماهية الخريطة وتشكيلاتها السالفة وتبايناتها، تشير التأكيدات بالإجابة الصريحة نعم. نعم تلك التي أحبّذها كثيراً وبحسب اعتقادي أنها ستكون القشّة التي تكسر ظهر «البعران». والبعران هنا مفردها بعير أي الجمل.

بعد كلّ التداعيات التي حصلت لاحقاً، بداية الأزمة الخليجية ـ الخليجية وانكشاف ستر الحكايات التي كانت مخبوءة تحت غربال سمل لا يفسد في حركة تغلّل الشمس قضية. والقضية هذه سأتحدّث عنها قبل قصّة «البعران» أعلاه، ألا وهي من ساعد الكثيرين على ركوب عتلة ما تسمّى الحرّية. الحرّية ذاتها التي جعلت منهم منفيّين إرادياً وراء حدود البحار المالحة تحت ستر الإنسانية التي صدموا جميعاً حين عاينوها بأنها ليست أكثر من بالونات زينة يتشدّق بها مخترعوها كي يظهروا بصورة النبل والرهافة والإنسانية… إلخ.

هذا ما أفرز خلال تلك المرحلة نُخَباً ثقافية ما أنزل الله بها من سلطان، وما أكثرها روابط وملتقيات ونوادٍ ووو، على مدّ القارة العجوز، من خلال المتاح هنا في أوروبا حول ما يسمّى حرّية التجمّعات وقيام الفعاليات على عكس ما كنّا نعيشه في البلاد. وبصراحة، ولإننا عندما كنّا في البلاد لا نقيم أيّ احترام للقانون، كنّا نجد من الصعوبة أن يذهب مواطن ما إلى وزارة الداخلية ويطلب منها أن تسمح له بأن يتظاهر ضدّ ظاهرة ما في البلد. حارس الخوف دائماً كان يمنعنا من الذهاب تحت عدّة احتمالات منها على سبيل العدّ لا الحصر، «إي وإذا تظاهرت ضدّ الحكومة مين رح يردّ عليّ، وبكرا رح الكلّ ينتقم منّي». كان هذا حال لساننا.

اليوم، لأنّ الأمر مختلف هنا، القانون الذي كنّا لا نحترمه بدءاً من رمي عقب سيجارة في الحديقة مروراً بعبور الشارع بشكل مخالف، هو ذاته نسخة واحدة، لكنه مختلف بالتطبيق، لا أقولها جزافاً حينما أرى من أعرفهم يتوقّفون خانعين بالدور أو على الإشارة المرورية التي كان يزمّر متباهياً لشرطي المرور بأنه عبرها وهي حمراء، وحتى لا أذهب نحو التنظير، قالها علناً ذات دعوة وزير خارجية النمسا: «نفتخر بكلّ السوريين الذين وصلوا إلى بلدنا والذين لم تسجّل بحقّ أيٍّ منهم مخالفة مرورية».

لا بدّ وأنت تقرأ كلمات الرجل ستمتلئ رئتك بهواء الافتخار، من دون أن تدرك أننا هنا في أوروبا العجوز وكلاجئين، وبحسب قول أهل المثل: «نمشي على العجين وما نلخبطه».

ليس في الحكاية حالة أخلاقية بحته بالمطلق، فلو كان بنا خير، لنعكس خيرنا على نهضة بلادنا، أما قال الرسول العربيّ: «خيركم خيره لأهله».

لكنّها وبكل صراحة هي قصة المعنونة الشهرية «الإعاشة»، في هذه البلاد أيّ مخالفة قد تمنعك من الحصول عليها، وهذا يعني عودتك إلى النقطة صفر «سورية» بعدما جدفت بالوحل على رؤوس الأشهاد لتبيّن لهم أنك أتيتهم مظلوماً. مؤكّد، أنا لا أدافع عن أخطاء ومظلوميات وحقوق تم إلغاؤها على غير حقّ في ظلّ تغطية الحكومة على ما سمّيتهم أعلاه بـ«البعران». ولا أُبرّئ منهم بعران المشهدية الثقافية السورية الذين يحتلّون المنابر بسلاحَي «التسحيج» لمشغّليهم تارة، و«التلحيس» تارة أخرى. كما أشرت إلى أن الحكاية بالمطلق حكاية «فلوس». وهنا أبيّن ما أردت الولوج إليه في هذا المقال، وهو موضوع الهجرة خلفاً، وعلى خطّين: الأول خطّ الجذب الذي تنهجه حكومتنا والتي تحاول احتضان أولادها من جديد، بدءاً من فتحها قاعة الشرف لمن أعلن أنه كان ضحية المؤامرة الكونية التي يقودها الشيطان الأكبر. لا شيء يضير في هذا، لم أرَ سالفاً أمّاً تميّز بين ابنيها العاق والمطيع!

أمّا الخطّ الثاني، فهو معانية حالة الإفلاس لدى هؤلاء والذين خذلهم مشغّلوهم بعد احتراق أوراقهم وقطع الإعاشات عنهم. وهنا يبدأ «الكهن» الخبيث كما حصل خلال الشهر المنصرم، حين دعا المدعو أحمد الجربا إلى مؤتمر للعشائر والقبائل السورية في القاهرة لمناقشة تداعيات الوضع في منطقة الجزيرة بعد اندحار «داعش» وشركائه من دير الزور تحت ضربات الجيش السوري. وهو ما يشير إلى أنّ الحكاية صارت قاب قوسين أو أشهى من استواء الطبخة تماماً، وهذا ما جعل عدداً لا بأس بهم من ركّاب الحركة الثقافية الخارجية المعارِضة تلتحق من دون تحضير بمؤتمر «أحمد الجربا» وتحت عدّة مسمّيات منها ومن باب الخجل صرّح أنّ ذهابه لا يتعدّى بأنه مهتم، ومنهم من قال إنّه ذهب بصفة مراقب، ومنهم من ذهب لدعم الفكرة، كلّ هذا بعدما تعالت أصوات مَن هم غارقون في الإثم حتى آذانهم، بأن الالتحاق والحضور هذا، «طعن خاصرة الثورة» التي ولدت ميتة أصلاً من حمل السفاح.

لست ضدّ عودة هؤلاء المدّعين إلى حضن الوطن، بل كنت وما زلت ضدّ كذبهم ونفاقهم. أقسم بأني لو كنت أعرف أنهم على حقّ لناصرتهم منذ اللحظة الأولى لقيام ما يسمّى «ثورة»، لكنهم قاموا لأجل مصالحهم بعد انكفاء أصحاب المطالب الحقة والتي كان يمكن الوصول إليها بالحوار.

لكنّهم أوغلوا حدّ النخاع بدماء الأبرياء السوريين وممتلكاتهم، والآن يتمسّحون على غير خجل بعباءة الجربا، لغسل دَنَسهم ليتمّ الترتيب لِما يسمّى «حضن الوطن».

لا ضير في أنّ حضن الوطن يتّسع للجميع. ولكنّني بصدد العودة إلى مطالع المقال، حيث تحدّثت عن البعران من «السحيجة ومسّيحة الجوخ» الذين يتبوّأون مراكز ثقافية مهمّة في مفاصل الدولة الآن. كي أشير إليهم بأن تعاليهم وفسادهم وتحويل هذه المؤسّسات إلى مزارع خاصة، لمجرّد وصول فوج التائبين يعني هذا حرق أوراقكم وكشف كلّ ما هو مستور أو مسكوت عنه، ركّاب الحرّية الانتهازيين قادمون أيها البعران، تحسّسوا مؤخراتكم التي تعطّنت الكراسي منها. اللهم لا شماته بأحد!

أقولها لكم اليوم وليس غداً، وحدها مدينة «كولن» الألمانية ستعيد إليكم ومن تحت عباءة الجربا عدداً لا بأس من «ركّاب الحرّية» الذين لم يسلم من ألسنتهم وحبرهم أيّ عرض أو دين نبت على أرض سورية العريقة، وعلى مبدأ الصورة التي ضجّت وسائل التواصل والمجتزءة من المنهاج السعودي، «ديني… كذا… وغير هذا كلّه باطل».

وعلى سيرة المرحوم فنان سورية «أبو عنتر» أقولها: «باطل»، بعدما دارت البلاد دورتها الكبيرة لتعود من جديد إلى النقطة صفر. وعلى مبدأ «حليمة»، التي لم تعد إلى «عادتها القديمة»، التي بات الشعار الثقافي السوري يحنّ إليها رغم كلّ آثامها، ألا أنّ العائدين الجدد، لهم ما لهم وعليهم، لهم ما لهم من التجارب في اقتناص الفرص، وعليهم ما عليهم إلا أن يعودوا… فقط.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى