علي عوباني

كان واضحاً لكثيرين مع بداية أفول تنظيم «داعش» الإرهابي أنّ الإدارة الأميركية ستلجأ بعدما فشلت ورقة «داعش» وأخواتها في تحقيق مشروع وحلم «إسرائيل الكبرى» ، الى لعب ورقة إغراء أكراد العراق بالاستقلال عن بلدهم الأمّ لتعويض فشلها الأول باحتلال العراق بالأصالة، وانتقاماً لإفشال احتلالها الثاني بالوكالة، ومن أجل تأمين مصالحها الاستراتيجية، وتوفير موطئ قدم دائم لها في منطقة غنية بالنفط والمعادن الثمينة، فضلاً عن الإمساك بورقة ضغط وابتزاز وتهديد لأمن دول الجوار المناهضة لاقليم كردستان وبالأخص إيران وتركيا وسورية.

مخططات تاريخية

وإذا كان الشعب العراقي قد نجح سابقاً في إخراج الاحتلال الأميركي من بوابة بغداد، وأفشل مؤامرة «داعش» الإرهابية مؤخراً، فها هي واشنطن تعود اليوم من نافذة أربيل في العراق، وعبر قوات سورية الديمقراطية «قسد» في سورية، مستخدمة لعبة الأقليات، التي برعت بها. من هنا لم تبدُ خطوة استفتاء إقليم كردستان الأخيرة مستغربة، كونها توّجت وترجمت مساراً طويلاً تخللته محطات تآمرية أميركية عدة، لم يكن آخرها إصدار مجلس الشيوخ الأميركي في أيلول 2007 قراراً غير ملزم، يطالب الإدارة الأمريكية حينها بتقسيم العراق إلى ثلاث مناطق اتحادية «شيعية وسنّية وكردية»، فالمخططات التقسيمية التي أعدّت للمنطقة قديمة وكثيرة وأكثر من أن تحصى، جوهرها متشابه:

1 ـ وثيقة «كارينغا»، المخطط الأقدم أعدّته «هيئة الأركان الإسرائيلية» ونشرته في كتاب يحمل عنوان «خنجر إسرائيل» عام 1957.

2 ـ «وثيقة كيفونيم» وضعها الكاتب الصهيوني عوديد ينون ونشرتها مجلة «كيفونيم» الناطقة باسم المنظمة الصهيونية العالمية في شباط/فبراير 1982.

3 ـ مشروع المؤرّخ الصهيوني الأميركي الشهير برنارد لويس لتقسيم الشرق الأوسط إلى أكثر من ثلاثين دويلة اثنية ومذهبية.

4 ـ وثيقة «لين بيرك» الشهيرة عام 1996 التي تهدف الى تأمين «إسرائيل».

5 ـ مشروع بريجينسكي مستشار الأمن القومي السابق الذي يهدف الى تفتيت العالم العربي وتحويله الى كانتونات تضمّ جماعات عرقية ودينية مختلفة يسهل التحكم بها واستخدامها أدوات في إثارة النزاعات، بحيث يسمح للكانتون «الإسرائيلي» أن يعيش في المنطقة.

6 ـ دراسة ريتشارد بيرل المستشار السابق لوزير الحرب الأميركي بعنوان «الاستراتيجية الإسرائيلية حتى عام 2000» التي دعا فيها أميركا لغزو العراق باعتبار ذلك جزءاً محورياً من الاستراتيجية «الإسرائيلية».

7 ـ خريطة «الشرق الأوسط الجديد» التي لوّحت بها الولايات المتحدة الأمريكية علناً على لسان كونداليزا رايس خلال العدوان «الإسرائيلي» على لبنان عام 2006.

واللافت أنّ ما يجمع جميع تلك المخططات التي أعدّت لتقسيم المنطقة وأغلبها منشور وغير سري أنها انطلقت من فكرة واحدة ووحيدة هي إيجاد بيئة آمنة لـ»إسرائيل» لجعلها دولة قابلة للحياة ضمن محيطها الجغرافي والديموغرافي، وما جرى على أرض الواقع وما يجري اليوم بعد استفتاءي جنوب السودان وإقليم كردستان وما سبقهما من تشتيت وتفتيت مكامن القوة في العالمين العربي والإسلامي عبر ما سمّي «ربيعاً عربياً»، يثبت أنّ هاتين الدولتين الوليدتين الجديدتين ليستا سوى أحجار دومينو في لعبة الشطرنج الأميركية «الإسرائيلية» في الساحتين العربية والإسلامية، وأنّ ثمن انفصالهما سيكون لعب دور أساسي في تسييل الكيان «الإسرائيلي» في المنطقة.

كردية الإقليم تبرّر يهودية الكيان

اليوم بات بإمكاننا القول إنّ «إسرائيل» تحاول عبر استفتاء إقليم كردستان إحياء حلم «إسرائيل الكبرى» من جديد من النيل إلى الفرات دون خوض حروب عسكرية ظاهرية، فوجود دول اثنية وعرقية ومذهبية على حدود كيانها سيسهّل عملية اندماجها في محيطها وذوبانها تطبيعاً وتغلغلاً في المنطقة وسيوفر لها منافذ الى ضفتي النهرين لطالما حلمت بها، وهذه مسألة بغاية الخطورة على قضية فلسطين تحديداً كونها تتزامن مع إعلانات نوايا خليجية واضحة بالتطبيع، ما يعني انّ قضية فلسطين ستصبح في مهبّ الريح.

تقسيم المنطقة الى دويلات على أساس مذهبي وطائفي، من المؤكد أنه سيمنح نتنياهو الفرصة لتنفيذ طروحاته بتحويل كيانه الغاصب الى «دولة يهودية»، ولعلّ ذلك ما يفسّر غبطة نتنياهو التي لم يستطع كتمها وإنْ طلب من وزراء في حكومته عدم التعليق على حدث الاستفتاء، ليقينه أنّ سيطرة «إسرائيل» على المنطقة لن تقوم لها قائمة، إلا بتفتيت المنطقة الى دويلات طائفية ومذهبية متناحرة. مع العلم أنّ مشروع نتنياهو هذا ليس سوى إحياء لمخطط عوديد بينون الذي رأى أنّ وجود «دولة يهودية» يصبح مبرّراً مما يسمّى «الناحية الأخلاقية»، في حال أضحى لكلّ طائفة دولة.

نعي «سايكس بيكو»

بعد قرن كامل على اتفاقية «سايكس بيكو» التي رسمت حدود الدول الحالية في المنطقة، بإمكاننا اليوم نعي تلك الاتفاقية لانتهاء صلاحيتها. مسار الأحداث بدأ يشير الى أننا أمام «سايكس بيكو» جديد أشدّ لعنة يفتت المفتت ويقسّم المقسّم على أساس عرقي ومذهبي. نموذج سودانستان، وكردستان، لا شك أنه سيشجع أقليات أخرى على المطالبة بانفصالها. من هنا يطرح السؤال الأساسي على من سيأتي الدور في التقسيم بعد تقسيم دولتين الى أربع في غضون ست سنوات، فهل سنكون في مقبل السنوات أمام أقباطنستان في صعيد مصر، وسيناستان في سيناء، وجولانستان في جنوب سورية…!

لا شك أنّ ما يجري اليوم خطير بمدلولاته والأخطر منه الموقف العربي التطبيعي والانبطاحي والانهزامي، بعدما أضحت فوضى «الربيع العربي» منطلقاً لاختبار سلاح الاستفتاءات بدفع من الدول الكبرى لإعادة رسم حدود دول المنطقة بدماء أبنائها، وتغيير التوازنات القائمة فيها روسيا استخدمت نفس السلاح في شرق أوكرانيا . ولا شك أنّ ما شجعها على ذلك هو هشاشة الكيانات العربية والإسلامية وحدودها غير الثابتة والقصور الفاضح بحسّ الانتماء الوطني والمواطنة.

عجزت الأنظمة الحاكمة في العالم العربي والإسلامي عن اندماج مواطنيها في مشروع وطني أو قومي يعبّر عن طموحاتهم، فافتقدت شعوب المنطقة لحسّ المواطنة والانصهار في وطن واحد، عزز ذلك افتقاد تلك الدول لرجالات دولة يتجرّدون من هويتهم المذهبية والطائفية ويعملون وفق قناعتهم بما يناسب مصالح الأوطان. كما أنّ الشعوب العربية لم تستفد من فرصة «الربيع العربي» لقول كلمتها، ولم تكن ولادة لتلك الرجالات، فأُكلت على حين غرة كما أكل الثور الأبيض، ورُوّضت واستغلت ضمن مخططات تقسيمية جهنمية لعبت على تناقضاتها البينية المذهبية والعرقية والإثنية.

مواجهة التقسيم

لا شك ولا ريب أنّ الدول العربية المثخنة بأزماتها ونزاعاتها البينية، تبقى عاجزة هذه الأيام عن المواجهة أمام أخطر مشروع عرفته المنطقة منذ مئة عام، لكن ذلك لا يعفيها عن الاستنفار وبذل جهود استثنائية، من أجل تبني سياسة موحدة حيال خطر التقسيم الداهم وألا تكتفي بإجراءات حدودية، لأنّ المسألة أعمق بكثير من انفصال أو تقرير مصير، وهي باتت تهدد كيانات، لا سيما أنّ الكيان الجديد الوافد في طور الولادة كردستان لم يراع الهواجس المحيطة به بل فاقمها، حينما أثنى على الدعم «الإسرائيلي» للاستفتاء وهو يعلم انّ «إسرائيل» العدو الأول والأخير للعرب والمسلمين.

أمر آخر وهامّ أثبت نجاعته بمواجهة التقسيم بظلّ عجز الدول وحكوماتها عن الوقوف بوجه أميركا، هو مقاومة شعوب المنطقة، فمن أسقط مخططات «داعش» التقسيمية بمقاومته، في العراق واليمن، وسورية… بات اليوم الضمانة الوحيدة والأقوى بوجه المخططات الصهيوأميركية التقسيمية والتفتيتية لأوطاننا العربية والإسلامية.

كاتب لبناني

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى