تشرين

تشرين

مع أولى تباشير تشرين، ولدت في بيت مؤلّف من غرفتين ومطبخ هو حمّام في الوقت نفسه، لتسعة أطفال وقطة، وأمامه عريشة عنب وشجرة توت وكرم تفاح. خرجت إلى الحياة صامتة فظنّوا أن بي خطباً، فقط لأني لم أستقبل الحياة بالبكاء. فكانت الصفعة الأولى التي جعلتني أصدر صوتاً رافضاً، حين حاولت جدّتي لفّي، كما كانت العادة، لم تنته حتى أخرجت يدي. وأعادت المحاولة من دون جدوى. فقد رفضت وعمري يوماً واحداً القيد. فتركوني وشأني ألوّح بيديّ الصغيرتين للقادمين كلهم. أختزن في ذاكرتي رائحة الحليب المغلي وخبز التنور والبطم وعطر حبقة وصخباً لا يفارق بيتنا، وذكرى أول لعبة وكتاب وألوان. كما تضجّ ذاكرتي بقصص وحكايات والدي في ليالي شتاء طويلة نغفو فيها متلاصقين على وقع جنون عاصفة وخوف أميرة هاربة من ألف ليلة وليلة، وحروب الجان والإنس وبطولات أسطورية رجال الثورة في جبالنا الذين طردوا الاحتلال.

كبرت وأنا أرسم وجوهاً لهؤلاء الأبطال بجبين شامخ وقلب كبير وهم يقاتلون كي ينقذوا أميرة اسمها سورية من براثن غول متوحّش. كان الوطن بالنسبة إليّ شجرة سنديان أسند ظهري إلى جذعها وأنام في ظلّها بأمان، وحتى حين كانت تفقد كل أوراقها بفعل العواصف كنت أنتظر بكل إيمان وثقة أن تعود إلى الحياة أكثر قوة وجمالاً.

لم أتغيّر كثيراً منذ ذلك اليوم التشريني، فما زلت أكره القيود ولا ينطقني إلا الألم والأمل. وما زلت أرى وطني شجرة سنديان نحن جذورها شامخة باسقة قد تعرّيها العواصف، ولكنها عاجزة عن اقتلاعها، لم أتغيّر لأن ثورة فاسقة داعرة قطعت الأشجار وقطعت الرؤوس ونشرت الدمار، ولأني اكتشفت أن الغول ليس أسطورة خرافية بل هو موجود تحت أسماء مختلفة، فما زلت أؤمن أن رجالنا أساطير في الحروب من كان معدنه سورياً فلا تغيّره المحن، فلا تأبهوا بكل ما قيل وسُيقال. فنحن الجذور وهم الغبار. ونحن الأحرار مذ خُلقنا وهم العبيد الفجّار.

وفاء حسن

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى