وعَد الرئيس بري… فوفى!
أسامة العرب
لم تفلح الضغوط الكثيفة التي مارستها المصارف لتطيير قانون تمويل السلسلة الضرائب ، ولم تفلح جهودها بأخذ الضرائب من الفقراء، لكي تبقى معفاة من موجب تسديد الضريبة على الفوائد، حيث رفض الرئيس بري الاستجابة لإملاءاتها، معتبراً أنّ هناك خطاً أحمر اسمه: الضرائب على المصارف والغرامات على الإشغال غير القانوني للأملاك البحرية، وخطاً أحمر آخر وأهمّ منه اسمه لقمة عيش الفقير! علماً بأنّ جمعية المصارف أذعنت ورضيت بأن يجري رفع الضريبة على الأرباح إلى 20 في المئة بدلاً من 17 في المئة، في مقابل أن تبقى المصارف معفاة من الضريبة على الفوائد، إلا أنّ الرئيس بري رفض ذلك، وهكذا رُفعت الضريبة على فوائد المصارف إلى 7 في المئة، ونجح الرئيس بري بالحؤول دون إلغاء السلسلة بسبب فقدان الموارد، ودون الاستجابة للضغوط السياسية الرامية لتمويل السلسلة بعد إجراء تسوية لقطع الحساب وإقرار موازنة 2017. كما أنّ مجموعة الضرائب المعتمَدة لم تُصِب ذوي الدخل المحدود، وإنما طاولت لوبي المصرفيين والمضاربين العقاريين. ويُمكن القول إنّ تمويل السلسلة يُعَدّ إنجازاً للرئيس بري، الذي سارع إلى قطع الطريق أمام المصارف التي ما فتئت تشجّع على الطعن بالقانون، إذ قال: «فليجرّبوا الطعون، ستنقلب على الطاعن وعلى المطعون أمامه».
إنّ هذا الإنجاز له مدلولان: الأول أنّ الضغوط التي تمارسها المؤسّسات الكبرى وأصحاب رؤوس الأموال للتحايل على القوانين في سبيل إعفائها من الضرائب، لا قيمة لها في ظلّ وجود رجل دولة كبير كدولة الرئيس بري، والثانية أنّ النظام المالي في لبنان، سوف لن يتحوّل نظاماً رأسمالياً متوحّشاً كما يحلو للبعض، مهما كانت الأثمان، ولو عُرضت مجدّداً مليارات الدولارات على الدولة وليس ملياراً واحداً من أجل إعفاء المصارف من تسديد الضرائب على الفوائد.
ويرجع سبب ذلك، إلى قناعة الرئيس بري بأنّ الـ 60 مليار دولار والتي ذهبت إلى المصارف اللبنانية كخدمة للدين العام، أيّ «الفوائد» منذ عام 1993 إلى حينه، والـ 5 مليارات دولار التي تضاف سنوياً إلى مبلغ الـ 60 مليار دولار كافية لإطعام فقراء الشرق الأوسط بأكملهم، لا فقراء لبنان فقط. ودولة الرئيس يعلم بأنّ هنالك مليوني شخص يوصفون في لبنان بالفقراء ويتواجدون في 242 منطقة عقارية موزعة على لبنان كلّه من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب مروراً بسهل البقاع والعاصمة بيروت ومحيطها، ويعيشون جميعاً وسط تدهور خطير وسريع على صعيد التوترات الاجتماعية والفقر بما يفوق قدرة الدولة والمؤسسات والبنى التحتية على تلبية الحاجات المتعاظمة. كما أنّ هنالك مليون لبناني يعيشون تحت خط الفقر ومنهم تحت خط الفقر المدقع أو المطلق أو الأدنى. والأسوأ أنّ هؤلاء لا يملكون دفع نفقات المدارس لأبنائهم، لا بل عندما يبلغ أبناؤهم التسع أو العشر سنوات يُفرض عليهم في واقع الحال أن يتحوّلوا مصدر دخل لعائلاتهم. فيما تنعم المصارف اللبنانية بـ 5000 مليون دولار سنوياً، ترى مئتين وخمسين ألف عائلة لبنانية تعيش بدولارين إلى 4 دولارات يومياً، وتستجدي مساعدة من الدولة بقيمة 150 دولاراً لإطعام أطفالها. إذن، الفقر اليوم هو التحدّي الأخلاقي الأكبر، وهو تحدّ يستحثّ همم الحكام والمثقفين وعالم الأعمال وأعضاء المنظمات غير الحكومية من نقابات ومنظمات حقوق إنسان، فضلاً عن سائر المواطنين المهتمّين بقضايا المجتمع، ذلك أنه لا يمكن الحديث عن تنمية مستدامة من دون القضاء على الفقر.
نحن اليوم لسنا بحاجة لإقرار موازنة العام 2017 وحسب، وإنما لوقف نزيف خدمة الدين العام، الذي أدّى إلى جعل الدين العام يصل لعتبة 76.9 مليار دولار، والذي للمصارف التجارية اللبنانية منه 83 في المئة للدين بالليرة وما يفوق الـ 75 في المئة للدين بالدولار. من هنا يمكن ألا تترافق الأضرار مع عجز عن تسديد الديون، إنما مع وجودها فقط. وبالتالي، فلا بدّ أن يتمّ وضع اتفاق طويل الأمد مع المصارف المحلية لتتحمّل جزءاً من المسؤولية الاجتماعية للتنمية الشاملة من أجل حفظ التوازن بين أهمية القطاع وبين ضرورة مساعدة الدولة، ومكافحة البطالة.
وليس مفهوم المسؤولية الاجتماعية للهيئات الاقتصادية بأمر جديد، فمنذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بدأت أوروبا والولايات المتحدة تشهد بروزاً لافتاً لجمعيات حماية المستهلك، والجمعيات المدنية التي بدأت تطالب المصارف والشركات بتحمّل مسؤوليات الفقر وتدهور الوضع المعيشي. ولعلّ أبرز المحاولات لتثبيت دعائم هذا المفهوم وتحصينه أخلاقياً تجسّدت بصدور الميثاق العالمي للأمم المتحدة الخاص بممارسة الأعمال التجارية عام 2000. الميثاق الذي انضمّت إليه حتى يومنا هذا أكثر من 9000 شركة متعدّدة الجنسية من 167 دولة، والذي يُعتبر أكبر مبادرة طوعية لتعزيز المواطنة، لا سيما أنه يستند إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كذلك إعلان منظمة العمل الدولية بشأن المبادئ والحقوق الأساسية في العمل، وإعلان ريو الخاص بالبيئة والتنمية، واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.
نحن نأمل أن يقوم الرئيس بري، بإقرار قانون للمسوؤلية الاجتماعية للمصارف والشركات في لبنان، خاصة أنّ هذا الأمر سيحلّ أزمة 50 في المئة من الشباب العاطل عن العمل، وهو يكتسب أهمية متزايدة على الصعيد الدولي بعد تخلي القطاع العام عن كثير من أدواره الاقتصادية والخدماتية التي تصحبها بطبيعة الحال برامج اجتماعية كان يُنظر إليها على أنها أمر طبيعي ومتوقع، لأنّ الدولة أمّ الصبي. كما أنّ المسؤولية الاجتماعية للمصارف والشركات لا تقف عند التبرّعات للمشروعات والبرامج التنموية والخيرية، فثمة مجالات للعمل ومبادئ يجب أن تلتزم بها الشركات وسيعود ذلك على المجتمع والدولة بفوائد كبرى، ويجنّبها كوارث وأزمات بيئية واقتصادية واجتماعية ستكون في تكاليفها ونتائجها أكبر بكثير من التكاليف المترتبة على هذه المسؤوليات والالتزامات. ومن محاور هذه المسؤوليات الاجتماعية، تنظيم وإدارة الأعمال، وتقديم المساعدات للفقراء ومحدودي الدخل، وحماية البيئة وتطويرها، وحماية الموارد الأساسية كالمياه والغابات والحياة البرية والتربة وتطويرها، ومكافحة الفساد وتجنّبه، والتزام حقوق الإنسان والعمل والعمال، ومساعدتهم في تحقيق مكاسب اقتصادية واجتماعية مثل الادّخار والتأمين والرعاية لهم ولعائلاتهم، ومشاركتهم في الأرباح.
الصدقات التي يسعى البعض لمنحها لمن هم تحت خط الفقر من خلال قانون أفعال ليست الحلّ الأمثل، إذ إنّ الفقراء يحتاجون إلى شراكة وكرامة أكثر مما يحتاجون إلى منّة مكلّلة بالشروط، وفي المقابل فإنّ المنطق السائد أنّ القطاع الخاص كما شارك القطاع العام اقتصادياً وصادر أرباحه، عليه أن يشارك القطاع العام في التنمية ويعتمد الحلول المطبقة في الخارج لتحقيق التنمية وتخفيض معدّلات الفقر، وفقاً للتجارب الدولية القائمة.
إنّ الرئيس بري الذي لمع وبرع في مجال العمل الوطني، والذي تميّزت إنجازاته منذ تولّيه رئاسة المجلس النيابي بإقرار قوانين تدخل في صلب موازين العدالة الاجتماعية، والمشهور بحنكته ومراسه القانوني وقدرته على تدوير الزوايا واجتراح المخارج، قادر على تمرير قانون المسؤولية الاجتماعية للمصارف والشركات، والذي يرى المنتدى الاقتصادي العالمي بأنه يجب أن يُفعّل ويخلق آلاف الوظائف للتصدّي للحاجات الأساسية للمواطنين. آملين بأن يقرّ هذا القانون في لبنان في أقرب وقت ممكن، على ألا يقتصر على الأعمال الخيرية وتعزيز صورة الشركات والمصارف، وإنما على معالجة مشاكل الفقر والبطالة لإعداد المنطقة لمستقبل مشرق ومستدام.
محام، نائب رئيس
الصندوق الوطني للمهجرين سابقاً