مخاطر تغييب الجمهور الشعري ـ الأدبي

أمين الذيب

في وقت تتعرّض مجتمعاتنا لحروب تدميرية تطاول الوجود الحضاري قبل أن تطاول الدول والجيوش والبُنى التحتية وما إلى ذلك على مستوى استهدافنا من الخارج. ترزح شعوبنا تحت وطأة الانقسامات الدينية والمذهبية والإثنية، ما أفاد المؤامرات الخارجية بالنفاذ إلينا من خلال هذه الانقسامات والصراعات، ووظّفتها كقوى تدمير ذاتي تحقّق غاياتها ومطامعها في بلادنا.

تتبدّل أولويات المجتمع بتبدّل مفاهيمه وقِيَمِهِ التي يؤمن بها، أو التي دُفِعَ ليؤمن بها، فإذا نظرنا إلى حالنا اليوم نجد أن الولاء للطائفة والمذهب ولاءً حاسماً، هذا الولاء الذي استقطب الفرد لتكون مصلحته من مصلحة انتمائه الديني أو الإثني، بغضّ النظر عن انتمائه الوطني الذي أصبح محفوظاً على بطاقة قيده فقط.

أرسى هذا الواقع أولويات لا تُعبّر عن حقيقة المجتمع بقدر ما هو تعبير عن مدى التخلّف والانحطاط الذي يكاد أن يتعمّم، فابتعد الناس عن كلّ ما هو جامع وموحِّد، بما في ذلك الشعر والآداب بكافة أنواعها، وكأنما هو ابتعاد عن روح الحياة كون الشعر والموسيقى هما الروح التي تدفع الشعوب تاريخياً إلى التقدم والارتقاء، واستكانوا في الماضي لعجزهم عن الدخول إلى المستقبل. وللدلالة، أقدّم بضع أمثلة كأن يجتمع عشرات الألوف في الساحات الدينية يبتهلون ويمارسون طقوساً تقترب أو تتشابه مع الطقوس الوثنية، بينما نعجز عن استقطاب بضعة أشخاص في أمسية موسيقية أو شعرية. المثل الثاني والذي يلفت الانتباه، كونه يؤشّر عن قصد بدافع المنفعة المادية، أو بغير قصد تماهياً مع الذائقة الشعبية، فقد درجت بعض المسارح الكوميدية وهي معروفة جداً للجميع على تقديم مشاهد جنسية كلامية أو إيحائية لاستقطاب زبائنها.

إذا ألقينا نظرة سريعة على دور الشعر والشعراء في حياة الجماعة كما هو في العصور القديمة، مثل الملاحم والأساطير السومرية والكنعانية والأشورية والبابلية وصولاً إلى العصر الجاهلي ثم الإسلامي، نجد أن الشاعر كان مفكّر الجماعة وإعلامها وقائد حروبها ووسيطاً إلهياً بين الناس والكون ومفهوم الخلق والإبداع، وأكثر ما تجلّى ذلك في العصر الجاهلي حيث كان الشاعر شاعر الجماعة والناطق بِاسمها، ينتفي ويموت كشاعر إذا انفصل عن قبيلته، كما أشار إلى ذلك الشاعر طُرفة ابن العبد. واستمر الشاعر بعد الإسلام ليكون شاعر البلاط في الهجاء والمديح، أستثني شعراء الغزل والخمر والمجون والصعاليك من هذا التبويب، كونهم خرجوا على نمطية المديح والهجاء وذهبوا مذاهب الحياة بعمقها وعمق مدلولاتها الإنسانية الراقية.

هذه مقدّمات لنفهم ما هو سبب انفضاض مُعظم الناس عن كلّ ما هو ثقافيّ فكريّ شعريّ مسرحيّ موسيقيّ. وهل هناك ما نُضيفه، طبعاً تتراكم عدة عوامل لتشكل للإنسان حالة خمول أو حالة تقدّم وانبعاث، منها النظام العالمي العولمة الذي استباح المتّحدات الاجتماعية ـ السياسية، وغزو المجتمعات ثقافياً، وطمس الحقائق الوجودية ـ الحضارية وإحلال ثقافات سطحية بقوالب مغرية تفصل المجتمعات عن واقعها وتراثها وقيمها ومثلها العليا. وقد لعب الدين المُتشدّد دوراً فعّالاً في ابتعاد الناس عن الفعل الثقافي الثوري المتجدّد وبقائهم تحت سقف مقدّس يُكفّر كل ما هو ليس ديني ثابت على التعاليم والطقوس التي يصعب، إذا لم يكن مستحيلاً، تجاوزها.

في الخلاصة، لا بدّ من حثٍّ على إيجاد المخارج والحلول لمعالجة هذه الظواهر المتفشية بمجتمعاتنا، والتي باتت تشكل خطراً حقيقياً على إمكانية العمل الوحدوي، الحافظ استمرارية الحضارات وتطوّرها. فإذا فقدنا القوة الدافعة لهذا الاتجاه، نفقد تتالياً قدرتنا على البقاء فاعلين في مسار الحياة التقدّمي، ولا نجد أنفسنا إلا خارج مسار التاريخ. لا بدّ من نهضة تُطيح بالراهن المأزوم، باعتماد حيوية ذات غاية وأهداف وطنية قومية تُعيد إلى مجتمعاتنا دورها التاريخي الريادي.

شاعر وناقد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى