دول المشرق بين الحكم الديني والعلماني
أمين الذيب
شكّلت السنوات الست الأخيرة، حالة من القلق الوجودي، طغت مفاعيلها على تفكير شعوب وسياسيي ومفكري المشرق، لخطورة ما نجم عن هذه الهجمة من أفكار وممارسات هدّامة، ومفاهيم رجعية متخلفة وماضوية، تنشد مصادرة الحاضر والمستقبل، وإعادة المجتمع قسراً إلى الماضي بصورتهِ الدموية الزجرية التكفيرية.
اتصفت المرحلة السابقة لِما أُطلق عليه تسمية الربيع العربي ، بالاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي الى حدّ بعيد، باستثناء الصراع والحروب مع العدو القومي «الإسرائيلي»، ومحاولات التدخل الغربي الأميركي، الهادف الى بسط النفوذ والسيطرة على الغاز والثروة النفطية، فكان حصار العراق النفط مقابل الغذاء ثم اجتياحه وتفكيك جيشه وتدمير بناه التحتية، وتفكيك مجتمعه طائفياً ومذهبياً وسرقة آثارة وثرواته المنقولة، كبداية لإعادة تنظيم اتفاقية سايكس بيكو على أسس مذهبية وطائفية وإثنية، تمهيداً لتفتيت المنطقة وتجريدها من أيّ قوة يمكن أن تُعيق تنفيذ مشروع نابوكو ، وعلى هذا الأساس كان لا بدّ من إزاحة سورية عن المشهد الإقليمي عبر تدميرها وإعادة بعثها مقسّمة مفككة متناحرة، وما شهدته من أحداث مخيفة ومرعبة إنسانياً دليل قاطع على غاية المشروع الغربي المدعوم إقليمياً.
هذا، وإذا نجا المشرق من الفخ الكردي، الذي نصبته كلّ من أميركا و«إسرائيل»، وإذا استطاع حماية نفسه من المطامع التركية والطموح العربي للسيطرة عليه، نكون قد وصلنا الى مرحلة تسمح وتُتيح طرح أسئلة عن ماهية الدولة وشكلها القانوني والدستوري، وطبيعة إدارتها للملفات الداخلية الصعبة والحساسة لارتباطها بالنزاع الطائفي والمذهبي الذي فرضته القوى التكفيرية الموجّهة من الخارج، ومدى فداحة فعلها وانعكاسه على الديمغرافيا السورية والعراقية من حيث التهجير الإثني القسري بفعل ارتكاب المجازر والموبقات التي تُصنّف جميعها جرائم حرب.
يتمايز المشرق، عن سائر الأمم العربية، بتنوّعه الاجتماعي السياسي، وغناه الوطني الجامع لطوائف ومذاهب وإثنيات متجانسة في مفاهيمها الوطنية والقومية، حيث تُعتبر بمجمل سكانها جامعة أقليات تتفاوت نسبتها، ولكنها تتصف بالصفة ذاتها وربما هذا كان من أحد دوافع الغرب لتدميرها .
إذا ارتكزنا في تحليلنا على علم الاجتماع، فإنّ حيوية الأمة التي تجلّت بقدرتها على الانتصار في الحروب التي فُرِضت عليها، يؤكد أنّ الانتصار تكرّس لاستنادها على حضارتها الراقية والمتقدّمة وعلى حنكة قيادتها السياسية والديبلوماسية والعسكرية، ولانتمائها الى قيم ومٌثُل عليا تُعبر عن إرادة الشعب في تمسكه بالحياة والحرية والاستقلال، وما استماتته في الدفاع عن أرضه إلا وعي قومي رائد.
ومَن كانت له هذه المواصفات الحضارية، لا يستطيع إلا أن يكون متماهياً بل متقدّم في بناء دولة عصرية تحفظ انتصاراته وتضحياته، فهل الدولة الدينية حتى المعتدلة أو المُتساهلة هي تعبير عن طموحات الناس. إنّ القوانين المنطلقة من الشرع لها صفة ثابتة، لأنّ النصوص الدينية ثابتة، ولها ثوابتها ومقدّساتها، التي لا يمكن تجاوزها. إذ كيف يمكن أن نساوي بين الحرية والمقدّس؟ كيف نعقل العقل لصالح المُقدس؟ الدين وسيلة شريفة تُمارس بين المؤمن والخالق، بين الفرد وربه. الدين والسياسة نقيضان، خطان متوازيان لا يلتقيان، لذلك نرى أنّ مستقبل المشرق، وإمكانية بقائه منارة فكرية وأخلاقية، يقوم على القدرة على إنتاج دولته المدنية العلمانية، وهذا لا ينفي التديّن بل يعززه إيمانياً بتخليصه من الوزر السياسي المنوط به، والذي بات يشكل عبئاً وجودياً على تكافل المجتمع ووحدته. فالمجتمعات المتنوّعة المشارب الدينية لا يمكن أن تتعايش مع أيّ شكل من أشكال الأنظمة التيوقراطية. إنّ قيام دولة المواطنة، يعزز شخصية المجتمع وينقله من حالة البداوة إلى الحالة المدنية، كما علينا أن نعتبر أنّ بلادنا هي الأساس الأول واللبنة الأولى لقيام المدنية في العالم، ابتداء من الحضارة السومرية والأكادية والأشورية، أن شريعة حمورابي لا زالت ببعض بنودها سارية المفعول حتى يومنا هذا خاصة في القوانين الزراعية.
في الخلاصة، إنّ القوانين الشرعية رغم حضورها الراهن لا يمكن أن تقود المجتمع الى الانفتاح والازدهار، لعدم توفر المتحوّل فيها، أيّ أنها ثابتة بمقدّساتها التي تُكفّر مَن يتجاوزها، إنما إلحاح الضرورة يقضي بأن تكون القوانين الوضعية هي التي تؤسّس حياة المجتمع على العدالة والحرية والمساواة على أساس المواطنة، ولا يمكن حصر الشعوب الحيوية بما لا يتناسب مع غاياتها وأهدافها في الحياة.