الطوائف والسِّيادة ٢
نسيب أبو ضرغم
في سياق مقاربتنا لموضوع الطوائف، لا بد من التفريق بين أن تكون الطوائف مكوّنات روحية، بمعنى أنها مجموعة من الناس ذات نظرة واحدة إلى قضايا العقاب والثواب والله والجنة والنار والقيامة… وأن تكون مكوّنات ذات أدوار سياسية واجتماعية وثقافية… فالطوائف في المعنى الأول، لا خوف منها ولا عليها، أما في المعنى الثاني فهي العامل المدمر لوحدة المجتمع، والحليف الموضوعي للمشروع اليهودي في أمتنا بخاصة وفي العالم بعامة.
في المقالة السابقة، أشرنا إلى أن الدستور اللبناني الذي تبناه مجلس النواب اللبناني بعد التعديلات الدستورية التي طاولت بعض مواده على يد أول حكومة استقلالية، شرَّع لأن تكون الطوائف هي العناصر المكوّنة للمجموع اللبناني على حساب المواطنة والشخصية الذاتية للمواطن، وذلك عبر المادة 95 من الدستور.
إذن، الدستور جرى تفخيخه بالمادة 95 التي انسحبت على القوانين كافة وخاصة قانون الانتخاب، القانون الذي يكاد يكون قانوناً دستورياً بامتياز، من حيث فعل هذا القانون في تأكيد حضور الطائفية، سياسةً، وثقافةً، واجتماعاً، بل اقتصاداً أيضاً، في الحياة العامة للبنانيين، والقانون الذي يبقي اللبنانيين أسرى المعتقلات الطائفية التي فُرِضت عليهم.
لقد بُدئ بمؤامرة تهديد وحدة المجتمع السوري وتمزيقها، ومن ضمنه لبنان، بعد حوادث 1860 المشؤومة، إذ فُتح المجال أمام الدول الأوروبية بالأساس، ومن ثم الولايات المتحدة الأميركية، لتبدأ عملية تأسيس مدارس وجامعات في لبنان على يد الإرساليات، فكان التعليم والثقافة مفتاح الاستعمار وتمزيق الوحدة الاجتماعية.
لم تُخرِّج هذه الإرساليات نموذجاً وطنياً ذا ثقافة وطنية واحدة، بل خَرَّجت نماذج بعدد هذه الإرساليات التي اتخذت من تقديم المادة العلمية تسريب سم التمزيق الثقافي، وبالتالي الاغتراب الثقافي عن مجرى الثقافة العامة التي هي المصدر الأساس للثقافة الوطنية.
جاءت الإرساليات الأوروبية والأميركية لإخراج فريق من اللبنانيين على مسار التاريخ القومي الواحد، عبر تشويه الثقافة بجعلها ثقافة طائفية ومذهية ومعادية في الوقت عينه للمصالح الوطنية والقومية.
النموذج الثقافي الذي ولّدته هذه الإرساليات نما حتى صار مشروعاً سياسياً منفصلاً عن التاريخ والجغرافيا، وبالتالي شكل من نفسه جرماً تابعاً للمشروع الصهيوني، وخلق لهذا المشروع مناخاً ملائماً ظهر جليّاً منذ أوائل القرن العشرين، فأثناء انعقاد مؤتمر الصلح في باريس «إتصل كلٌّ من ديفيد بن غوريون وحاييم وايزمن بالبطريرك الماروني الياس الحويك، وحاولا إقناعه بإمكانية تخلي لبنان عن الجليل الأعلى وجنوب لبنان، لقاء وعد بالمساعدات المالية والفنية كافة لتطوير لبنان… غير أن البطريرك الحويك تحفّظ حيال هذا الموضوع، سيما أنه خارج عن إرادته، كما أنه سيثير غضب فرنسا، التي كانت تعتبر هذه المناطق تابعة لاتفاقية «سايكس بيكو» الخالدي ـ المرجع السابق، ص 18 .
بمعنى أن البطريرك الحويك لم يكن لديه رفض لهذا الطرح فأبدى تحفظاً سببه موقف الفرنسيين وكون الأمر خارجاً على إرادته.
عام 1934، حينما كان لبنان برئاسة حبيب باشا السعد، وفي نيسان من ذلك العام، تم اتصال بين حاييم وايزمن وكلٍ من إميل إده وعبدالله بيهم والبطريرك عريضة. وفي عام 1935 أرسل البطريرك عريضة رجلين من الأكليروس قابلا حاييم وايزمن في فلسطين، وأكد المحامي وديع البستاني أن البطريرك عريضة أرسل كلاًّ من المطران عقل والمطران المعوشي لمقابلة وايزمن.
من رسالة وديع البستاني حيفا إلى بطرس البستاني لبنان في 7 أيار 1937 .
من محفوظات محمد جميل بيهم الوثائقية ـ ورد في مؤلف الخالدي السابق، ص 25 .
من الملاحظ أن اللقاءات التي جرت مع وكلاء الوكالة اليهودية ومرجعيات لبنانية كانت كلها على قاعدة أن هذه المرجعيات هي مرجعيات طائفية ـ مذهبية تعبر عن موقف مذهبي عام، ولم يسجل التاريخ في تلك الفترة أي لقاء خارج هذا الإطار، وهذا يؤكد إصرار الصهيونية على تكريس طائفية الدول، بدءاً بـ«دولة إسرائيل» وباقي «الدول» المحيطة بها. هذا ما كرّسته المادة 95 من الدستور اللبناني.
كان مضمون لقاء المطرانين عقل والمعوشي المرسلين من قبل البطريرك عريضة مع حاييم وايزمن متابعة المساعي لجعل لبنان وطناً قومياً مسيحياً «مقابل أن تكون فلسطين وطناً قومياً يهودياً». وثيقة من وثائق محمد جميل بيهم وقعت بيد المؤلف ـ الخالدي ـ المرجع السابق ص 24 .
بل أكثر من ذلك، ففي إحدى زيارات المطران مبارك لوايزمن وحاخام اليهود الأكبر، ألقى كلمة قال فيها: «أنا مطران اليهود، وهذا بطريركهم، إشارة إلى البطريرك الماروني عريضة، وكان الهدف يوم ذاك من اجتماعه بوايزمن إنشاء وطنين، أولهما في فلسطين والثاني في لبنان، ويقول «نتمنى أن يتحقق يوماً هذان الوطنان فيكونان شكوكتين في عين العروبة»؟؟!! ورد في «العروبة» تشرين الأول 1947 الجزء 8، ص 21 ـ 22، من مؤلف الخالدي السابق، ص 60 .
يمكن الاستنتاج أن المؤسسة الدينية والمؤسسة الزمنية السياسية المارونية كانت تعتبر أن ثمة حبل صرة واحداً لهذين التوأمين الدولة المسيحية في لبنان والدولة اليهودية في فلسطين ، وكلاهما من رحم واحدة، بدليل عدائهما للعروبة. هذا ما استمر في الذهنية السياسية لدى شريحة واسعة من المسيحيين، خاصة منذ بداية الحوادث عام 1975 والتي سنأتي على تفصيل أهم محطاتها في المقالات التالية.
كان فرح قيام الدولة «الإسرائيلية» مشتركاً مع رموز المارونية السياسية آنذاك، ففي حزيران 1937 اجتمع إميل إده مع حاييم وايزمن وقد أكد هذا اللقاء كلٌ من S.christopher وH.M.Sachar، إذ اعتبر وايزمن أن اللقاء كان محطة صداقة دائمة بين الدولة اليهودية والجمهورية اللبنانية… ولأجل ذلك فإن الرئيس إميل إده أمسك بيد وايزمن وهزها قائلاً: «إني أحيي الرئيس الأول للجمهورية اليهودية S.Christopher,Grossrodes To Israel, p.204. H.M Sacher, p84
ورد في مؤلف الخالدي السابق، ص 33.
كان البطريرك أنطوان عرضة والمطران الماروني أغناطيوس مبارك ورئيس الجمهورية ألأسبق إميل إده والنائب يوسف كرم وبعض السياسيين الموارنة قد اتفقوا في ما بينهم على مطالبة لجنة التحقيق الدولية بقيام الدولتين اليهودية والمارونية… ولقد كُلف المطران مبارك بتقديم مذكرة باسمه، وبالفعل ففي 5 آب 1947، أرسل المطران مبارك من أوروبا مذكرة إلى رئيس لجنة التحقيق الدولية السيد E. Sandstrom الموجود في جنيف، عبّر فيها عن موقف مُغرِقٍ بالطائفية قائلاً: «… وأما فلسطين فما أن دخلها المسلمون حتى تعرضت للإهانة الشائنة والاضطهاد والنهب والخراب والتنكيل، لأن الكنيس والكنائس حولت إلى جوامع لغرض مقصود، وقضي على الدور الذي كان يمثله الجزء الشرقي من البحر المتوسط»؟؟!!
Cahier de l orient contomporain, vol. XI-XII, D, 212
الخالدي، المرجع السابق، ص 65 .
الجملة الأخيرة خير معبر عن مشروع استراتيجي كبير يتعلق بشرق المتوسط ودور ذلك في الداخل السوري. وهذا ما يفسر العداء التاريخي بين هذا التيار المتعصب في المارونية السياسية والداخل السوري، فالرئيس شمعون كان ينقل عنه قوله: «سورية القوية لبنان الضعيف، سورية الضعيفة لبنان القوي» ولم يذكر قوة «إسرائيل» إطلاقاً.
في العام ذاته 1947 قرر سعاده إجراء تظاهرة تنديداً بوعد بلفور، عمدت الحكومة إلى منعها مما اضطر سعاده إلى إصدار بيان بتاريخ 2 ـ 11 ـ 1947 يدين فيه تصرف الحكومة قرار منع التظاهرة، يعبر خير تعبير عن غياب مفهوم ومعنى السيادة لدى السلطة الطائفية في لبنان بألوانها كافة، ففي حين يتمنون ولادة الدولة اليهودية يمنعون تظاهرة منددة بوعد بلفور، ألا يعني ذلك أن كينونة الدولة اليهودية جزء من جينات هؤلاء الطوائفيين السياسية والثقافية.