الثغرة الإعلامية الخطيرة
غالب قنديل
ينشغل الرأي العام اللبناني بكمية كبيرة من الهواجس والمخاوف المثيرة منذ ظهور الجماعات التكفيرية الإرهابية مجدّداً كخطر داهم على الأمن والاستقرار على الحدود اللبنانية ـ السورية، وكخطر محتمل في القطاع الشرقي من الجبهة اللبنانية مع الكيان الصهيوني، وما يتناهى من المعلومات والتقارير عن «خلايا إرهابية نائمة» في العديد من المناطق اللبنانية والمخيمات الفلسطينية.
أولاً: من البديهيات المتعارف عليها في القوانين اللبنانية ان تتعامل وسائل الإعلام بحزم في قضايا السلامة الوطنية التي تمسّ الاستقرار العام للبلاد وهي اليوم وجودية ومصيرية مع تمادي العدوان الإرهابي على سيادة الدولة وقواتها المسلحة، وهو ما شكل عنوان إجماع في مجلس الوزراء الذي يضمّ ممثلين للتيارات والكتل الرئيسية في البلاد، واستدعى توصل المؤسسات المرئية إلى ميثاق تعهّدت فيه بفرض حصار إعلامي على الجماعات الإرهابية وعلى المحرّضين الداعمين لها، لكن سرعان ما تفكك التعهّد تحت وطأة الاستغراق في لعبة السبق الإعلامي لتفسح مساحات سخية من الهواء السياسي للإرهابيّين وقادتهم وتنظيماتهم وداعميهم، بل وبصورة ترويجية يخشى بعض الخبراء الإعلاميين أن تكون مدفوعة الثمن.
أشرطة برمّتها توزعها «داعش» و«النصرة» على يوتيوب تتحوّل إلى مواد تبث على الهواء وتحتلّ مساحة من نشرات الأخبار وهي تتضمّن تحريضاً ضدّ الجيش اللبناني، ومسّاً بهيبته وتماسكه، وتحريضاً على تمزيقه، وأكثر من ذلك سعت بعض القنوات اللبنانية بكاميراتها ومراسليها إلى أوكار إرهابية تستنطق أفرادها وزعماءها المطلوبين للعدالة والذين يقودون حملة اعتداءات على الجيش اللبناني، بينما يُستضاف في برامج الحوار السياسي من يبرّرون جميع الأفعال العدوانية، ويقدّمون لها الذرائع في حفلات تحريض طائفي ومذهبي تسبغ مشروعية على جرائم الإرهابيين، وتلتمس لهم العذر فتخفض من درجة الرفض الشعبي لهذه التشكيلات، وتصوّر بعضهم أبطالاً ملهمين لشباب وفتيان مستهدفين في خطط التجنيد التي تنفذها جماعات التكفير الإرهابية بدلاً من تحصينهم ضدّها، وبالطبع فإنّ مثل هذه المظاهر الإعلامية تشمل الصحف لكن المشهد في الإعلام المقروء يبدو أقلّ اختلالاً وأضعف تأثيراً أمام جماهيرية التلفزيون المسلّم بها.
ثانياً: لنقل بصراحة إنّ جميع المحاولات والمتابعات الرسمية التي جرت تحت عنوان تحصين الأداء الإعلامي قد تكون حدّت موقتاً ونسبياً وموضعياً من تمادي هذا السلوك، لكنها لم تنجح في الحدّ من أسلوب الإثارة والتحريض الذي تتورّط فيه بعض القنوات ولم تفلح في تعليق أجندات إخبارية وحوارية فيها، ما يخدم الإرهابيين ويضعف المناعة الوطنية وينال من هيبة الجيش الوطني وحصانته، وهي أفعال تقع تحت طائلة قانون العقوبات قبل أن تكون مشمولة بأحكام قانوني الإعلام والمطبوعات.
من مصادر الخلل حالة الانقسام السياسي في البلاد وداخل الحكومة نفسها ومنطق الحماية السياسية الذي يسود في التعامل مع وسائل الإعلام منذ وقوع التقاسم الذي تمّ به توزيع التراخيص الإعلامية المرئية والمسموعة وحيث جرى تنظيم التفلّت من القانون وتطبيقاته وشلّ آلياته، ففي لبنان مجلس وطني للإعلام استشاريّ الرأي والقرار بالنسبة إلى مجلس الوزراء، وغير مزوّد بالحدّ الأدنى من آليات متابعة الأداء التي نصّ عليها القانون، ووعد وزراء الإعلام المتعاقبون منذ عام 1996 بتمكينه منها دون طائل، وهو حالياً مضطر حين يريد إصدار أيّ تقرير عن الأداء إلى التعاقد مع شركات خاصة من موازنته المحاصرة والمتآكلة بالاقتطاعات… وهكذا وفي مرحلة حرجة مشحونة بالمخاطر تتوسّع الثغرة الإعلامية خلافاً للمصلحة الوطنية المفترضة وتستمرّ بالتوسع بفضل نظام الحماية السياسية للخلل الإعلامي وعبر ما يظنّ البعض بأنه ثمرة تمويل خارجي يربط بعض الإعلام اللبناني بالحكومات المتورّطة في دعم الإرهاب او بمكتب الاتصال الأميركي في دبي.
ثالثاً: لا لزوم لاسترجاع التعريفات والخلاصات النظرية عن دور الإعلام الحديث في الحروب، ولكن تجاوزات مهنية جسيمة تكشف الثغرة الخطيرة التي يجسّدها بعض الأداء الإعلامي الذي يخرق بديهيات مهنية متعارف عليها وعلى سبيل المثال لا الحصر:
1 – تصرّ بعض وسائل الإعلام اللبنانية على تسمية الجماعات التكفيرية الإرهابية التي تعتدي على لبنان بخليطها متعدد الجنسيات، بمن فيهم لبنانيّوها المطلوبين للعدالة، وهي تحتلّ بلدة لبنانية وفق تصريحات وزير الداخلية وتنذر بغزو بلدات أخرى بـ«مسلحي المعارضة السورية» أو «الثوار السوريين»، وفي ذلك تضليل بشع ومفبرك يهدف إلى الإبقاء على هوامش من التعاطف اللبناني مع هذه الجماعات التي يضجّ العالم بأسماء تنظيماتها،وقد صنّفت على لوائح الإرهاب، ولم يعد من تنازع جدّي في نعتها بالصفة القانونية حسب لوائح مجلس الأمن، ناهيك عن التوصيف اللبناني الطبيعي لها كعدو إرهابي يعتدي ويخطف جنوداً وعسكريين ويعمل على تخريب الأمن اللبناني، وقد ارتكب عدداً من الجرائم التي هزّت البلد.
2 – التعامل مع الجنود الفارين من الجيش اللبناني كمنشقين وهو أمر يخالف التوصيف المهني والقانوني للحالات المعنية، حتى لو التحق مرتكبوها بالجماعات الإرهابية، لأنّ توصيف الانشقاق ينطبق على التمرّد الجماعي وهو ما لم يحصل، ناهيك عن واجب الإعلام الوطني في تحصين المؤسسة العسكرية ووحدتها لمنع حصول التمرّد ولعدم مؤازرة سعي الجماعات الإرهابية المعادية إلى تفكيك المؤسسة العسكرية جهاراً بدلاً من التورّط في لعبة التحريض على ذلك باستعمال تعبيرات خاطئة الدلالة والتورّط الإعلامي في ترويج التحريض المذهبي والطائفي داخل صفوف العسكريين.
3 – التعامل بأحادية سياسية مع تعبيرات الاختلاف السياسي من خلال بعض البرامج المكرّسة للقدح والذم والمسّ بالخصوم أو التركيز على عناوين الاختلاف بنقاش تناحري على الشاشات بنتيجة اختيار المتحدثين الأشدّ عدائية وتوتراً من خندقيْ الصراع السياسي في البلد، وقيادة الحلقات الحوارية بصورة تجعل الاستديوهات حلبات مصارعة تسودها الشتائم ولغة التحريض التناحري، بدلاً من تطوير مساحات الحوار الجدي بين المتصارعين والمختلفين أمام الأخطار الداهمة، وبالتالي يتعزز تعميم المفردات الطائفية والمذهبية التي تفاقم الانقسام الداخلي، ويصعّد مستوى الشحن في الشارع وتعطى تغطية مجانية لمصدر الخطر المتربّص بالجميع.
التحليل الاخباري لمركز الشرق الجديد