المزرعة اللبنانية… حصيلة ثالوث الفساد اللامساواة الطائفية

د. لور أبي خليل

أظهرت الدراسات الحديثة عام 2016 في معظم دول العالم أن الفساد المنظّم زاد الهوة بين الطبقات الاجتماعية مما أدى إلى تصاعد اللامساواة الاجتماعية، فأتت ردة الفعل الشعبية في تغيير الاستحقاقات الانتخابية. وظهر هذا الأمر بشكل جليّ عند وصول ترامب الى الرئاسة الأميركية. ويفسر هذا الأمر على الشكل التالي: أن الاستياء الشعبي من أداء السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية وفّر بيئة حاضنة لوصول السياسيين الشعبويين الذين يربطون في خطاباتهم بين النخبة الفاسدة الحريصة على إثراء نفسها وأنصارها وبين تهميش الطبقة العاملة. واعتبر الباحثون أن من أحد الأسباب الرئيسية التي سمحت لوصول هؤلاء الى السلطة تفشي الفساد في القطاع العام أي عدم انضباط السلطة في صناعة القرار، بالترافق مع وصول أشخاص لا يملكون الكفاءة والجدارة الى الاجهزة الرقابية في الدولة.

فتطرح الإشكالية التالية: ما هي الأسباب التي تعيق التغيير في الاستحقاقات الانتخابية في لبنان، رغم تفشي الفساد؟

لم ينظر المسؤولون الحكوميون في لبنان إلى أنفسهم باعتبارهم مساءَلين كأفراد، بل إنهم اعتبروا أنفسهم دوماً فوق القانون أسياداً يتمتعون بحصانة طائفية تحت تفسير أن كل من أراد محاسبتها يكون هدفه إلغاء هذه الطائفة. هذا الأمر أدى لترسخ الفساد كمفهوم مصحوب بالتمييز المذهبي، على أن كل مَن يطَل مسؤولاً فاسداً فهو كما لو أنه يطال الطائفة التي ينتمي اليها هذا المسؤول.

هكذا أصبح الفساد واللامساواة مفهومين متلازمين: الأول للمسؤولين الحكوميين الطائفيين، والثاني لأصحاب النفوذ الذين يتحكّمون في النظام المالي لإثراء أنفسهم على حساب المصلحة العامة. فنرى مثلاً أن التواطؤ بين رجال الأعمال والسياسيين يُحرم الاقتصاد الوطني من ملايين الدولارات من العائدات عبر تحويل المسار لصالح عدد قليل من المسؤولين الحكوميين لا تمكن مساءلتهم، لأن طوائفهم ومذاهبهم ومناطقهم يحرّكونها متى شعروا بأي خطر. وهنا يتجذّر الفساد ويلتقي رجل الدولة برجل المال ليعملا سوياً بما ترتئيه مصالحهم الخاصة.

والمشكلة لا تأتي فقط من قبل هؤلاء، فالمواطن اللبناني يشارك أيضاً في هذا الأمر.

كيف ذلك؟ تعب المواطن اللبناني من الوعود الباطلة التي قطعها الكثير من السياسيين الذين تعهّدوا بمعالجة الفساد، لكنّ المواطنين دخلوا هذه المنظومة وأصبحوا أداة يتحكّم بها رجال السلطة، لأن اللبناني يتحرّك ضمن معيارين: المعيار المناطقي والمعيار الطائفي. ويظهر هذا الأمر عندما ينتخب المواطن مرشحه سواء في الانتخابات البلدية أم في الانتخابات النيابية، أي كيفما كانت أوجه مشاركته في الحياة السياسية. إن معظم اللبنانيين يختارون قادة طائفيين ويرفضون اختيار القادة العلمانيين، بل أخطر من ذلك ينتقدون الفكر العلماني ويعتبرونه فكراً يلغي هويتهم المذهبية. لأنه بإلغاء الطائفية والسعي الى مبدأَي الجدارة والكفاءة لا تبقى هناك أية محسوبيات يمكن أن ترتهن الى الطوائف والمذاهب، بل على العكس. فالفرد عندما يؤمن بعلمانيته يرفض الوساطة والمحاباة ويُنجز مهامه بما ترتئيه المصلحة العامة، وليس المصالح العائلية والمذهبية. طبعاً، إن تجذُّر الطائفية والمذهبية في لبنان يظهر في هذه الأيام بشكل واضح عبر الحملات المغرضة التي تُقام على الأحزاب العلمانية، إذا أرادت التعبير عن رأيها، حتى ولو كان هذا الرأي هو محاربة العدو الصهيوني.

لذا نعتبر أن أنماط الفساد في المجتمع اللبناني مرتبطة بشكل مباشر بسلوكيات السلطة السياسية وبرجال الأعمال، لأنهم يخالفون أبسط قواعد العقل والمنطق والقانون والشرع. فالسلطة السياسية في لبنان أظهرت نفسها لمواطنيها ولمجتمعها بأنّها مصدر للجاه والمال والسلطان، والحصول على الخدمة لا يستطيع المواطن الوصول إليها إلا بتأييد جميع سلوكياتها. ومع تراكم هذا التكرار تصبح هذه السلوكيات أمراً مألوفاً ثم مقبولاً على مستوى المجتمع.

وهكذا يصبح التجاوز على المال العام، واستغلال الوظيفة العامة أو الخاصة واستثمارها، وتنفيع الأقارب والمحسوبية والواسطة أموراً تتكرر يومياً في المجتمع.

وكانت نتيجة هذا الأمر ان الذين يوضعون في اعلى المراكز في الدولة معظمهم لا يملك الكفاءة والجدارة، وإنما المعيار الأول لاختيارهم هو الانتماء الطائفي والولاء لمرجعهم السياسي الطائفي. وهذا الأمر يشكل خطراً على التنمية الاجتماعية وعلى تطور المجتمع في جميع جوانبه. فمن المفترض في هذه الحالة أن تتحرك النخب الثقافية وتنشئ «لوبياً» يطالب بحقها في الوصول الى المراكز العليا في الدولة، لأن بوصول اصحاب المنفعة لا نعرف الى اي «مزرعة طائفية» قد نصل. والأمر الأكثر خطورة الذي نشهده من الذي يحصل هو سلوكيات بعض المسؤولين الحكوميين الذين يعيقون السلطة التشريعية في لبنان من أداء مهامها، فهي تشرّع وتصدر القوانين، ولكن لا يتمّ تطبيق العديد منها، والسلطة القضائية وقوانينها ساكتة تتفرّج على ما يحصل.

مَن الذي سوف يأخذ هذا التحدّي ويتحرّك لإخراج لبنان من هذه الدوامة؟

دكتورة في العلوم السياسيّة والإداريّة

باحثة وخبيرة في شؤون التنمية الاجتماعيّة ومكافحة الفساد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى