إدريس: عزل الثقافة والفنّ عن السياسة هو تماماً ما يريده العدوّ لإلباس احتلاله وعنصريته ورقاً برّاقاً
رنا صادق
نظّمت «ندوة العمل الوطني» في مركز توفيق طبّارة ـ الصنائع، ندوة بعنوان «تحصين الجمهور اللبناني ضدّ التطبيع مع إسرائيل»، تحدّث فيها المخرج المسرحي جلال خوري، مدير عام دار الآداب الكاتب الدكتور سماح إدريس، ونائب رئيس تحرير صحيفة «الأخبار» الكاتب بيار أبي صعب.
حضر الندوة جمع من المدعوّين تقدّمهم رئيس مجلس النواب السابق حسين الحسيني، عضو الكتلة القومية في البرلمان النائب الدكتور مروان فارس، العقيد جورج أنطون ممثلاً قائد الجيش العماد جوزف عون، الوزراء السابقون: بهيج طبارة، عصام نعمان، بشارة مرهج، الرائد أحمد حمادي ممثّلاً مدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، المستشار الثقافي في السفارة الإيرانية محمد مهدي شريعتمدار، رئيس حركة الناصريين المستقلين ـ المرابطون العميد مصطفى حمدان، المنسّق العام للروابط الشعبية معن بشور، وشخصيات أكاديمية وسياسية وحزبية وإعلامية واجتماعية.
إدريس
بدايةً، ألقى إدريس كلمةً جاء فيها: تحيةً إليكم، وتحية خاصة إلى أحد أبرز ضمائر أمّتنا، الدكتور سليم الحصّ.
عنوان الندوة «تحصين الجمهور اللبناني…» قد يبثّ الانزعاج في فئةٍ أو فئاتٍ من شعبنا، خصوصاً من يعتبرون أنّهم ليسوا قاصرين أو بحاجةٍ إلى تحصين وتلقين. لكن، بعد الذي شهدناه من انجراف الآلاف من أفراد شعبنا وراء الإعلام مزوّر الحقائق، ومشوّه ثقافة المقاطعة، فلا بدّ لنا فعلاً من آليات دفاع يستخدمها اللبنانيون ضدّ انتشار ثقافة التطبيع مع العدوّ. وهذه الآليات ينبغي أن تكون من تصميم وترويج عدة أطراف في المجتمع اللبناني، من قانونيين وفنّانين وحزبيين وكتّاب وإعلاميين، فضلاً عن حملة المقاطعة طبعاً.
نبدأ بالتحصين القانوني: مقاومة التطبيع عملٌ يكفله قانون مقاطعة «إسرائيل»، الصادر عن جامعة الدول العربية عام 1955، وتبنّاه لبنان وما يزال. وهو ينصّ في مادته الأولى على الآتي: يحظّر على كلّ شخصٍ، طبيعي أو معنوي، أن يعقد، بالذات أو بالواسطة، اتّفاقاً مع هيئاتٍ أو أشخاصٍ، مقيمين في «إسرائيل»، أو منتمين إليها بجنسيتهم، أو يعملون لحسابها أو لمصلحتها، وذلك متى كان موضوع الاتفاق صفقاتٍ تجاريةً أو عملياتٍ ماليةً أو أي تعاملٍ آخر مهما كانت طبيعته…
الكلمات الأخيرة لم تحصر الحظر بالتعامل التجاري مع العدوّ. صحيح أنه لم يرد ذكر أنواع التعامل الأخرى حرفياً، ولكنّ ذلك يعود ـ بحسب د. عصام نعمة إسماعيل ـ إلى أنّه لم يكن في وارد أي لبناني أو عربي آنذاك عام 1955 أن يقبل بـ«إسرائيل» أو أن يقيم أي تعاونٍ ثقافي أو حضاري أو فكري معها. ومع ذلك، فإنّ علينا اليوم تعديل هذا القانون كي ينصّ بشكلٍ صريحٍ على حظر أشكال التعامل الفنّية والثقافية والأكاديمية والمهنية مع العدوّ، وعبر الوسائل التواصلية كافةً. الجدير ذكره أن من يخالف هذا القانون يعاقَب، بموجب المادّة السابعة، بعقوباتٍ أهمّها الأشغال الشاقة الموقّتة من ثلاث إلى عشر سنوات.
غير أنّ التحصين القانوني ضدّ التطبيع لا يكفي على الإطلاق، لسببين. الأول أنّ مواد القانون كثيراً ما تكون حمّالة أوجه فمثلاً أصرّ أحد المحامين الأصدقاء على أنّ عبارة أو أي تعاملٍ آخر مهما كانت طبيعته لا تعني بالضرورة الجوانب غير التجارية . والثاني لأنّ التحصين الحقيقي يترسّخ فعلاً متى اقتنع الناس بصواب المقاطعة وأخلاقيتها وجدواها. وهنا يأتي دور الثقافة والإعلام والأحزاب ومناضلي المجتمع الأهلي هذا التعبير، على مشاكله، قد يكون أقلّ التباساً وبعثاً على الريبة من تعبير ناشطي المجتمع المدني . ويأتي ذلك من خلال ما سنعرضه الآن.
من أجل تعزيز آليات الدفاع الاجتماعي ضدّ التطبيع، علينا أوّلاً أن نُبرز أهمية التطبيع الثقافي والفني والأكاديمي بالنسبة إلى العدوّ. وهذا ليس صعباً مع كثرة التصريحات والحوافز «الإسرائيلية» في هذا الخصوص. من ذلك تصريح نائب المدير العامّ لشؤون الثقافة في الكيان الغاصب عام 2009، آريي ميكيل: «سوف نرسل إلى الخارج روائيين وكتّاباً مشهورين، وشركاتٍ مسرحيةً، ومعارض فنية… كي لا يتمّ التفكير فينا في سياق الحرب فقط». ومن ذلك، أنّ كيان العدوّ، عام 2016، دعا 26 من حَمَلة الأوسكار إلى زيارته، والهدف طبعاً تلميع صورته الدموية وقد رفضوا جميعهم بالمناسبة! . ومن ذلك، أخيراً، اعتراف الإعلام «الإسرائيلي» بخيبة أمل كبيرة من منع لبنان فيلم «المرأة الخارقة» من بطولة الجندية «الإسرائيلية» السابقة غال غادوت فقد كان «الإسرائيليون»، بحسب أحد إعلامييهم، يطمحون من خلال السماح بالفيلم في لبنان إلى أن يحبّنا اللبنانيون أكثر.
وعلينا، ثانياً، أن نواجه خطاباً ليبرالياً مزيفاً منتشراً في المجتمع اللبناني بعد انهيار، أو شبه انهيار، السرديات التحرّرية الكبرى. ثمّة خطاب في بلادنا، قائمٌ على مفرداتٍ تطبيعية في الصميم: كـ«ثقافة السلام»، و«حلّ النزاعات بالطرق السلمية». وتعميم هذه المصطلحات، بواسطة ما يسمّى المنظّمات غير الحكومية، يترافق مع وقف الحديث عن تحرير فلسطين بشكلٍ خاصّ، وتحويل الصراع التناحري مع العدوّ إلى محض نزاع إقليمي.
وفي إطار هذا الخطاب تبرز شعاراتٌ خطيرةٌ مثل المتوسطية والأورومتوسطية، وهي تهدف ـ من ضمن ما تهدف ـ إلى ترسيخ وجود «إسرائيل» في الذهن، لا في الجغرافيا وحدها، في وصفها كياناً طبيعياً ينبغي قبوله بحكم العادة والأمر الواقع.
كما يبرز تشويهٌ من قبل ناشطين ديمقراطيين يتقصّدون مساواة مقاومة التطبيع بالإرهاب الثقافي. وهنا على مناهضي التطبيع ألّا يكلّوا عن التمييز بين حرّية التعبير وحرّية التطبيع ففي حين أنّ الأولى مرغوبة في ذاتها عادةً، فإنّ الثانية تضرب تاريخنا وشهداءنا وسيادتنا وقانوننا وتعرّض مستقبلنا الوطني والقومي للتشتّت.
وعلينا، ثالثاً، كإعلاميين وناشرين ومثقّفين، أن نتصدّى لذرائع المطبّعين اللبنانيين والعرب. ومنها:
ـ أنّ التواصل مع «الإسرائيليين» ضرورة ثقافية لمعرفة العدوّ. الردّ على هذه الذريعة ذو شقّين. يجب، أولاً، أن نبرز للمجتمع اللبناني أنّ المؤسسات الجامعية والقضائية والطبية والإعلامية «الإسرائيلية» جزءٌ لا يتجزّأ من بنية الاحتلال. فمثلاً معهد دراسات الأمن القومي، التابع لجامعة «تل أبيب»، هو صاحب نظرية القوة غير المتكافئة الداعية إلى تدمير البنية التحتية المدنية وإنزال أشد أنواع المعاناة في حقّ المدنيين. وجامعة «حيفا أيدت»، في بيان رسمي، عملية الرصاص المصبوب ضدّ غزّة 2008 ـ 2009 ، وأستاذ الجغرافيا فيها هو الذي اخترع فكرة الجدار العنصري، وهو صاحب قول: «إذا كنّا نريد أن نبقى على قيد الحياة فعلينا أن نقتل ونقتل ونقتل طوال اليوم، كل يوم». كما أنّ هذه الجامعات نفسها تزوّد المحاكم العسكرية بمتخرّجي القانون. أمّا المؤسّسات الطبّية «الإسرائيلية» فتضمّ أطبّاء يشرفون على تعذيب الفلسطينيين!
وفي هذا الإطار، علينا أن نوضح لمثقّفينا وطلّابنا أنّهم يستطيعون التعرّف إلى العدوّ… لكن مقرصناً، بدلاً من الذهاب إلى عقر داره أو التواصل معه بشكل مباشر أو إفادته مادياً هو أو ناشره أو منتجه أو موزّعه . بل إنّ في إمكانهم الذهاب إلى كلّ المؤتمرات العالمية تقريباً، إنّما ضمن شروطٍ تمليها عليهم واجباتهم تجاه القانون والوطن. فإذا دعوا إلى مؤتمر عالمي، فمن واجبهم أن يتأكّدوا من عدم حصوله على تمويلٍ أو رعايةٍ من أيّ مؤسّسةٍ «إسرائيلية»، وأن يتأكّدوا كذلك من خلوّ جلستهم من المحاضرين «الإسرائيليين» وإلّا طلبوا نقلهم إلى جلسةٍ أخرى ، وأن يتجنّبوا أخيراً الحوار مع «الإسرائيليين» هناك، رافضين وضع خلافاتهم السياسية معهم جانباً تحت أيّ حجّة ذلك لأنّ عزل الثقافة والفنّ والعلم عن السياسة هو تماماً ما يريده هذا العدوّ من أجل إلباس احتلاله وعنصريته ورقاً برّاقاً.
ـ ذريعة المطبّعين الثانية هي أنّ التواصل مع «الإسرائيليين» ضرورة تكتيكية لـ«اختراق الوعي الإسرائيلي». هنا الردّ سهل نسبياً ذلك لأنّه من العبث تصوّر المواطن «الإسرائيلي»، الذي يرى بأمّ العين جرائم دولته منذ عقود، وهو ينتظر، مكتوف اليدين، المثقف اللبناني كي يدلّه إليها!
ـ ذريعة المطبّعين الثالثة أنّ التواصل مع «الإسرائيليين» ضرورة فنية. وهذه الضرورة الفنّية هي التي حتّمت أن يذهب شخص كزياد دويري إلى كيان العدوّ وأن يعمل فيه سنةً تقريباً، وأن يستعين بممثّلةٍ «إسرائيلية» قبلت أن تتعرّى في الفيلم. الحجج الفنية باطلة هي الأخرى: إذ يمكن مخرجي أفلام الخيال العلمي أن يصوّروا فيلماً عن سطح القمر من دون أن يسافروا إلى القمر كما يمكن إيجاد نساءٍ غير «إسرائيليات» يقبلن التعرّي.
وتابع إدريس: إضافة إلى ما ذكرنا، فإنّ العدوّ، كما لا يخفى عليكم، يحاول أن يتسلّل إلى مجتمعاتنا العربي، ومن ضمنها المجتمع اللبناني، من خلال ثلاث بوّابات:
البوّابة الأولى هي بوّابة الطائفية. كل طائفة أو جماعة مستضعفة، أو تريد أن تستقوي على غيرها من الطوائف، مرشّحةٌ لأن تطبّع علاقاتها مع العدوّ الخارجي بدعوى حماية نفسها. خطر التطبيع هنا لا تمكن مواجهته إلّا بترسيخ المواطَنة. لا إمكانية لتغذية ثقافة مناهضة التطبيع إلّا عندما يعتبر كلّ لبناني نفسه جزءاً من مجتمعٍ واحدٍ متكامل، ذي أهدافٍ وطنيةٍ جامعة، لا فرداً في طائفةٍ تخضع لقرار زعيمها أو زعمائها في شتّى المجالات.
البوّابة الثانية للتطبيع هي بوّابة الأقلّيات. لا شكّ في أنّكم قد لاحظتم، خصوصاً في السنوات الأخيرة، تزايد ترحيب بعض الناشطين المنتمين إلى أقلياتٍ قومية بالتعاون والتواصل والتحالف مع «إسرائيل» على قاعدة وحدة الأقليات في وجه الأكثرية المستبدّة.
البوّابة الثالثة هي بوّابة المهمّشين. منذ سنوات وجماعاتٌ «إسرائيلية» تتصرّف وكأنّ «إسرائيل» قبلة المثلية والنسوية في منطقتنا، وتغري النسويات الفلسطينيات والمثليّين والمثليّات العرب بالتواصل معها في وجه الذكورية العربية و«الإسرائيلية» معاً . ولعلّكم شاهدتم، مؤخّراً، مسيراتٍ مثليةً داخل الكيان الغاصب، شارك فيها مثليّون عرب ولبنانيون وهذا يندرج ضمن ما يسمّى بالإنكليزية الغسيل القرنفلي أو الوردي pinkwashing ، أي طمس الدموية «الإسرائيلية» بلون المثليّة. وربّما ذكرتم، قبل أسابيع، قيام تظاهرة نسوية في أريحا جمعت بين نسويات فلسطينيات و«إسرائيليات»، وكأنّ المشكلة التي نعانيها ليست الاحتلال والعنصرية والدموية «الإسرائيلية»، بل هي محصورةٌ في الذكورية أو الأبوية الفلسطينية و«الإسرائيلية» وحدها! والحقّ أنّ هذه البوّابة سيصعب إغلاقها إلّا بالمزيد من الحرّيات الداخلية الحقيقية داخل مجتمعاتنا، وطبعاً بعيداً عن الإملاءات الأميركية والمفهوم الاستعماري لـ«الإصلاح والديمقراطية». وهذا موضوع طويل لا مجال للخوض فيه هنا.
وختم إدريس: إنّ أقوى سلاحٍ في يد القامعين يتمثل بعقول المقموعين. هذا ما كان يكرّره المناضل الجنوب ـ أفريقي ستيف بيكو. هذا القول قد يصلح خاتمةً لكلمتي. ذلك لأنّ هزيمتنا الحقيقية والفعلية هي حين نسلّم لعدوّنا بحقّه في الوجود والهيمنة بسبب ضعفنا الحالي. ومن ثمّ، فإنّ ثقافة التصدّي، ثقافة المقاطعة ومناهضة التطبيع، متى تمأسست وتجذّرت وتغلغلت في مناحي حياتنا كافّةً، ستكون من الأسلحة الأمضى والأبقى في معركة تعزيز قوة المجتمع اللبناني والعربي ، كما في معركة تحرير فلسطين.
خوري
ثمّ تحدّث خوري فأشار إلى دور اللوبي الصهيوني في دعم أعمال مسرحية في العالم لم تكن أساساً ناجحة، مؤكداً أهمية مسألة الوعي في محاربة وتحصين الواقع اللبناني ضدّ «إسرائيل».
وعرض خوري لبعض أسماء الحائزين على جائزة «نوبل»، مشيراً إلى موضوع رضا اللوبيات الصهيونية والغربية في هذا المجال، متوقّفاً أمام حديث الكاتب أمين معلوف لإحدى قنوات التلفزيون «الإسرائيلية». كما توقف عند إدارة «إسرائيل» بمهارة للعبة الاختيارات هذه.
ولفت إلى أنّ كلّ الأنشطة الثقافية في الغرب خاضعة لرقابة اللوبيات «الإسرائيلية»، مشيراً إلى أنّ حرّية التعبير لها وجهان لأنها توأم المسؤولية وإلا تصبح فوضى.
ورأى أن ما يحصل من تخريب في مجتمعات العالم ما هو إلا لخدمة الصهيونية و«إسرائيل». وختم مؤكداً أن الوقوف في وجه «إسرائيل»… رسالة.
أبي صعب
والكلمة الأخيرة كانت لنائب رئيس تحرير صحيفة «الأخبار» بيار أبي صعب، متوقفاً عند قضية زياد دويري والخسارة التي لحقت بالذين واجهوه بسبب القرار القضائي والدعم الإعلامي له. وأكد أن صواريخ المقاومة في لبنان تحمينا، منتقداً بعض المعارضين السوريين الذين طالبوا «إسرائيل» بضرب دمشق.
وقال: إننا أمام عدوّ، وأمام خلايا سرّية تعمل مباشرة مع واشنطن و«إسرائيل» عبر تمويل تتلقاه من منظمات مجتمع مدني. وربط بين الفساد السياسي والعصبية السياسية التي تعمل على حماية العاملين على التطبيع فنّياً وثقافياً مع «إسرائيل».
ولفت إلى سعي بعض الأوساط الثقافية والإعلامية إلى العمل على تحجيم قضية فلسطين. ودعا إلى متابعة العمل عبر الوصول إلى جيل الشباب لتحصينه، وأن يصبح قوة حقيقية من خلال دعم ماليّ يؤسّس لمهرجانات وأفلام، ووجود لوبي وإعلام، وأيضاً في إعادة الاعتبار لدور الأحزاب.