صرخات الاستنكار المتصاعدة من خيمة الشاعر هاني أبو نمير
محمد رستم
في الحديقة الغنّاء للعالم الشعري للمبدع هاني أبو نمير، تثوي هناك مؤشرات إشراقاته محنّاة بعشق عميق للوطن. وهذا العشق ليس غيمة صيف أو جرياً على العادة. بل هو ولهٌ متنامٍ قائم على أسّ العقل الذي يبرعم همّاً لاهثاً لنهضة أمّته، متنياً تعقيم فكرها ممّا علق به من عثّ وفطريات وعفن استوطن خلايا ذاك الفكر، ولينداح فيض القلب قصائد يضوع من أكمام زهرها عبق الأمل بعدما تحجّر تلك الوحوش الهاربة من حروف التاريخ المتسللة من الكواليس المظلمة لألق الحضارة، والتي تدأب لإعادة إنتاج تلك المتوالية من الانحطاط. وكم يتوق لأن ينطلق الفينيق من تحت الرماد.
يبدا الشاعر ترنيمته التي تقطر حزناً وآسى على أمته فيقول: طرحت سؤالاً غبياً، ترى ماذا هيأنا من أسلحة وعتاد لمواجهة عاديات الدهر، فأجابني من يظهر التذاكي، فما كان مني إلا أن ابتلعت سؤالي وخشيت أن أتهم بأني عاشق للوطن وأن قضاياه تؤرق فكري، فسكت خوفاً من ذاك المتفاصح ويلقي الشاعر الضوء على خارطة الجهل العربي معرّياً ما في مساحات هذا الفكر من مستنقعات للتخلّف وبُرَك آسنة للخرافات، مذكّراً بتيس «الأبو كمال»، حيث أشيع أنه يحتلب ما يشفي المرضى وأنه معجزة سماوية، فتقاطرت اليه الجموع من كل حدب وصوب إذ صار محجّاً للتبرّك. وهذا الأديب ياسين الابراهيم يسخر من ضحالة الإيمان وهشاشة البنى الفكرية للسواد الأعظم من الناس فيقول:
ذاك تيس الفرات فاشرب حليبا
إن يهبك الزحام منه نصيبا
طال شوقي إلى انطلاق سؤال
لاهث عاجل يروم مجيبا
هل عرى أمة النبوات عجز
ليصير الإعجاز تيساً حلوبا؟
ويرمي شاعرنا هاني أبو نمير برؤيته المتشائمة من خلال الحكمة المعروفة إذ لا فائدة من النفخ في قربة تناوشتها الخناجر قروناً طويلة وما يجعل أمواج التشاؤم تبلغ الزبى أن هذا الفكر يسير مغرقاً في الجهل على شكل متوالية متتابعة وفق برمجة معدّة تنهيه إلى الهلاك والعدم. ويفضح الشاعر سوأة الحكومات والأنظمة العربية التي تحتمي بالدين وتمارس شتى أنواع الخيانات لقضايا الأمة وبسؤال العارف المستهجن يقول: ماذا هيّأنا من عدّة لمواجهة المستقبل؟ ويجيب بحرقة ومرارة: نعم لقد طوّر حكام الشرق سلاطين الفراغ والهباء كل ما من شأنه أن يلحق الأذى بأمتنا وحوّلوا فكرها إلى قوى عمياء غبية وزرعوا الدسائس والشقاق والذي من شأنه افتعال حروب تستمرّ طويلاً ولأسباب تافهة. وكم من حروب بعيدة العهد وقريبة أزهقت الأرواح افتعلها سلطان أو أمير كي يبقى يتحكم بالرقاب وأنت تستهجن عدم إغاثتهم الشرف العربي الصارخ في فلسطين؟ فكيف تطلب النجدة ممن هو غارق في الرذيلة وهل يغيث الشرف من لا شرف له؟ وكيف يغيث الشرف من لا همّ لهم إلا البغاء وقد اتخذوه ديدنهم وأقاموا أسواقاً للفسق والزنى؟ لا بل نصّبوا من يسوغه ويجعله فلسفة في الحياة وأعلنو عداءهم للقيم الوطنية والدينية وللمقاومة التي هي انتماء للحق والإنسانية ويصرحون بكراهيتهم للأقصى الذي يدنسه الصهاينة. وهم بِاسم الله أكبر يرتكبون الكبائر من اغتصاب وقتل وإجرام.
ويتوجه إلى السماء فيقول: جنّت السماء إن لم تغضب وتزلزل عروش هؤلاء الذين ينهبون ثروات الشعب وبهذه المسروقات يدمرون حياة الأبرياء من العرب. ويطلق صرخة ألم فيقول: أيها العرب اتحدوا ضدّ هؤلاء وانتبهوا لما يكيدونه لكم فلا سلام مع هؤلاء المتوحشين، وهل من سلام بين الخراف ومفترساتها. أخيراً يحذّر فيقول: كيف تنكرني يا وطني فتحرمني من خيراتك التي تشارك الأعداء في تناهبها وانا أتألم إذ أرى الحريق يكاد ياتي عليك وأمتي نائمة فهل ألام، إذا كفرت وكذبت ما جاء في تراثنا من اننا خير أمة وكيف ذاك وحرائرنا تباع في سوق النخاسة ويداس فيها كلّ مقدّس.
إن المحاور الدلالية المهيمنة على النصّ تشير إلى خطين متقابلين متناحرين يركبان معاً قطار الزمن المنطلق من الماضي متوجهاً إلى المستقبل، المسار الأول يمثّله الواقع بكل تردياته ومسار آخر يمثله الشاعر بما يحمل من آلام ورفض لسوء الواقع مستهدياً بشعاع الفكر النيّر ويبدو الشاعر هنا كمن يسبح عكس التيار ولثقل العبء، يبدو كسيزيف وصخرته، حيث يجهد لإلقاء هذا الفكر العفن في مكب النفايات التأريخية، لكنه وبفعل محفزاته وعناصره من عملاء وتسطح فإنه يعيد إنتاج نفسه.
إن حروف الشاعر تنزّ ألماً وهو المعذّب بعشقه لوطنه ونلحظ ايجابية الدفع نحو امل يواكب حركة التاريخ. فالشاعر بالتأكيد لا يتحول إلى مجرد نواحة يستمطر الدموع ويطلق الصرخات بل تراه كالنطاسي إذ يضع إصبعه في الجرح ليشير إلى موضع الالم لا لكي يزيده وجعاً، إنه ينكأ الجراح ليشعل شمعة في إطباق الظلام الجاثم فوق صدورنا. فشاعرنا مسكون بهاجس الصعود بالوطن من مستنقع الظلام ومن مساحات عشّشت في ثناياها عناكب الموت وعثّ التخلف إلى فضاءات الضوء والحرّية.
لذا، نجده يبحث عن كوة تنسدل منها جائل النور، يبحث لاهثاً مستنكراً متألماً. هي الرغبة في قطاف ضوء جديد تهفو اليه روحه اللائبة فتبدو قصيدته المغمسة بالسواد كشرفات عطشى للضياء. إنه يلقي بهمومه على البياض بأزياء شتى محتجّاً مرة، كم من داحس غبراء طورها سلاطين الهباء، ومستنكراً أخرى، أيا استهجانك الأغبى ومتسائلاً على مدار الحروف وسألت ذات بلاهة ومنفجراً غيظاً في آخر المطاف هبلت سماء إن لم تثر غضباً، وعلى جسد التاريخ ينقل بصره يتوق ان يتلو صلاة النور ويستنبت الفجر من شريان الصلصال لكن المدى، كما يبدو لعينيه الثاقبتين سواد، سواد وحروفه المشحونة بطاقات نفسية هائلة تصبو لغد مشرق رغم سوداويتها، فهي تشكل النواة المولدة لفضاءات متمرّدة نحو إشراقة الخلاص، ولعل الحروف تبدو وكأنها جلد للذات وتضج منها أنات المازوشية، لكن التمعن في نبضها الموشوم باليقين الثابت بصوابية الرؤى تثبت أنه ينطق بلغة الواقع فتحس التنهدات تبعث دفقة من الألم والحسرة تنداح من خلال الحروف التي هدتها ضخامة الخطب وهو عندما ينشج ويصارع بلغة الاستنكار ويصل حد الاحتراق فإنه يستعرض الجثة المتفسخة للفكر العربي التي تعطلت لديها لغة الحوار على مدارج الحياة وهو إذ يفعل ذلك فإنه يستبطن نقضاً بنيوياً لجوهر هذا الفكر، ما يحيلنا إلى أسّ المسألة، أن حيتان الاستبداد يتلذّذون بركوب صهوات آلامنا ونهب خيراتنا وبذا فإنهم يخطفون أثافي سعادتنا. وما يدلل على عمق الثقافة لدى شاعرنا كثرة التناصّ في ترنيمته، ففي قصة داحس والغبراء تناصّ مع الموروث التاريخي والأدبي وكم من داحس غبراء…
إن أسلوبه الهجومي يذكّرنا بنزار قباني في قصيدة «هوامش على دفتر النكسة» وببعض ملامح مظفر النواب في قصيدة «القدس». إنه يرمي مناطق السقم بقذائف من العيار الثقيل، جاءت أنغامه معادلاً موضوعياً للواقع فحروفه الصارخة بالحقيقة، أن أقيموا سبل الفكر على أسس صحيحة كي ندخل عتبة التاريخ تشي بذلك، هذا وقد ابدعت الريشة الفنية للشاعر لوحات بث فيها الحياة وزينها بألوان قوس قزح فصورة القربة وقد تناوشتها الخناجر كناية عن الفكر العفن وصورة العقول العربية التي تدار بالبرمجة والعروش المتخمة… إلخ.
إن مبدعنا ينطلق من ملكة إبداعية متميزة وسليقة شعرية متجذرة فانبعثت الحروف من قاموسه الخاص الذي يألف السهل الممتنع وجاءت طيّعة مرنة استوعبت انسكابات الفيض الوجداني لديه وزينها بانزياحات في مجمل الوحدات الصغرى في اطار من الرمز الشفيف ما يثير الدهشة المحببة وأجاد الشاعر البناء الدرامي للقصيدة، فبدت وحدة عضوية حية وجاء هارموني الحروف متساوقاً مع الدلالات الشعورية في اطار من الموسيقى الشعرية المتقنة، وإن كان النصّ خطاباً إبداعياً فعند شاعرنا يبرز الجانب المعرفي جلياً ما يؤكد أنه كغيره من المبدعين من سدنة الوطن في تجليات الإبداع يحمل شرف الكلام السامي لأنه من الأصوات القادرة على بث تراكمها المعرفي في أشكال تعبيرية تستشرف آفاق المستقبل وتلتقط اللحظة التي تنفتح بدلالاتها على كل ممكنات الإبداع يدفعه شغف وهاجس بأن يضع لبنة علها تسند جدار حياتنا المتصدّع.
كاتب سوريّ