الدين يُستخدم لمصالح سياسيّة والإحياء اللاهوتيّ غائب
يتناول الباحث والوزير السابق جورج قرم في مؤلّفه الجديد ما أسماه استعمال الدين في الحياة السياسية الدولية، رافضاً في كتابه «نحو مقاربة دنيوية للنزاعات في الشرق الأوسط» منشورات «دار الفارابي» في بيروت، في 383 صفحة قطعاً وسطاً الآراء التي تحمّل عصر التنوير وأفكار الثورة الفرنسية تبعة أعمال العنف وسفك الدماء التي شهدها العالم، معتبراً أن تبعة هذه الأعمال يجب أن تعود إلى مجالات أخرى مسكوت عنها مثل محاكم التفتيش التي أنشأتها الكنيسة في ما سمي عصور الظلام.
الكتاب هو الثامن والعشرون لمؤلفه، يتكوّن من ثلاثة أجزاء وخاتمة، ويحمل الجزء الأول عنواناً رئيسياً «تفكيك منطق تبرير الصراعات» وفيه ثلاث فصول يعالج كل منها مواضيع عديدة، معنوناً الفصل الأول «مقدمة للمقاربة الدنيوية في تحليل الصراعات»، والفصل الثاني وتحته «الصراعات الجديدة ووظيفة عودة الدين»، أما الفصل الثالث فعنوانه «الدين والجيوسياسية : علاقة منحرفة»
عنوان الجزء الثاني «التلاعب بالذاكرة والهوية كمصدر للصراعات»، وعناوين فصوله: «عصر الهويات المتقوقعة والانتقال العالمي إلى تجمعات طوائفية»، «تصدير النزاع حول الجذور في بناء أسطورة الهوية الغربية»، «الذاكرة والتاريخ في نشأة الصراعات» والفصل الأخير في هذا الجزء «فلسطين مصب العواطف الأوروبية».
الجزء الثالث يحمل عنوان «إشكالية العلمانية والحرية» في ثلاثة فصول: «الطائفية والتعددية الثقافية مصدر الصراعات»، و»المعركة من أجل الحرية في الشرق الاوسط»، و»المسارات العكسية للحرية الدينية في أوروبا والعالم».
تحت عنوان «الصراعات الجديدة ووظيفة عودة الدين» يقول قرم: «إن الحديث عن «العودة» يعني وجوب غياب. غير أن ما من شيء قابل للجدال مثل هذا التأكيد وذلك لسببين رئيسيين. يعود السبب الأول إلى أن الدين على اختلاف أشكاله قديم قدم الكون. فالحاجة إلى التسامي وإلى تفسير هشاشة الوجود البشري أمام ديمومة الكون وحتمية الموت يستدعي الإيمان بجملة من المعتقدات من شأنها أن تهدىء من قلق الإنسان وروعه. وحيث أن الديانة المسيحية في أوروبا اقتبست صبغة علمانية تدريجيا فإنها وبعد قرون من الحروب بين أتباعها في أوروبا أنجبت أشكالاً أخرى من المعتقدات والأنظمة الوجودية التي غالباً ما تبنت أنماط الطقوس والاحتفالات نفسها للتعبير عن الايمان المشترك. في أماكن أخرى خارج أوروبا حافظ الدين التقليدي نوعاً ما على مركزه المهيمن وفقاً لتعددية المجتمعات، أولاً في الولايات المتحدة حيث لم يتوقف الدين عن أن يكون السمة المسيطرة على المجتمع الأميركي، وكذلك في مجتمعات الشرق الأقصى وفي الهند والعالم الإسلامي لا بل أكثر. فاليهودية بعد أن كانت ديناً منبوذاً ومحتقراً في أوروبا شهدت ولادة جديدة … تبلورت في إنشاء دولة «إسرائيل» عام 1948.» إن السبب الثاني الذي يحب أن يبعث الشك في وجود ظاهرة «عودة الدين» فيعود إلى غياب الإحياء اللاهوتي في الديانات التوحيدية الكبرى. لكي يكون هناك عودة مفترضة للدين ينبغي وجود تجدد عميق للاهوت تلك الأديان وعلى ما يبدو ليس هذا حال الديانات التوحيدية الثلاث ولا ديانات الشرق الأقصى والهند».
تحت عنوان «سنوات الثمانينات: لحظة التحول في «عودة الدين» المزعومة» يضيف قرم: «المؤشر الأكثر وضوحاً على مستوى الأحداث السياسية هو بلا شك انهيار الأنظمة الشيوعية فأنهى الحرب الباردة في نهاية الثمانينات. تجدر الإشارة إلى أنه في المرحلة الأخيرة من هذه الحرب التي يمكن وصفها بالحرب العالمية الثالثة قامت الولايات المتحدة الأميركية تقريبا في كل بقاع الأرض بتعبئة الأديان الرئيسية لمكافحة النفوذ المتزايد لمختلف أنواع الأيديولوجيات الشيوعية. اتخذت حينئذ المفردات السياسية الأميركية صبغة دينية عندما وصف الرئيس الأميركي رونالد ريغان الاتحاد السوفياتي بـ»إمبراطورية الشر». أما الحدث الكبير الآخر في هذا السياق فهو كما قال انتخاب البابا البولندي يوحنا بولس الثاني عام 1978 الذي عززت شخصيته ونشاطه «الشعور بهوية دينية راسخة قوية. إن الولايات المتحدة «لم تتردد كذلك في استدعاء الحركات الأصولية الإسلامية التابعة للمملكة العربية السعودية والباكستان وتدريب وتمويل الشباب العرب من مختلف الجنسيات لقتال القوات السوفياتية التي غزت أفغانستان عام 1979. اندرج قتالهم تحت راية الجهاد. الحرب المقدسة ضد «الكفار» المتمثلين في هذه الحالة بالقوات السوفياتية الملحدة.
«كذلك في السبعينات نفسها أنشأت المملكة العربية السعودية منظمة المؤتمر الإسلامي… وهي أول مؤسسة دولية تجمع دولاً على أساس الانتماء الديني وليس على أساس اللغة أو الانتماء إلى منطقة جغرافية واحدة… وتحت تأثير المساعدات السعودية الهائلة تبع عدد من الدول الإسلامية التشدد الإسلامي أو ترك الحركات الأصولية تربو على أراضيها».