«عبد العزيز الجديد» يلتهم جزيرة العرب… وبلاد الشام!!
د. وفيق إبراهيم
يتكرّر المشهد التاريخي بأدوات متجدّدة شكلاً، لكن بالمضمون نفسه. فاكتشاف النفط في الجزيرة العربية سمح لعبد العزيز آل سعود أن يطبّق في مطلع القرن الماضي خارطة توسّع بريطانية، مستولياً بمعونة مخابراتها وجيشها على تسعين في المئة من شبه جزيرة العرب. ويبدو أنّ الانتقال إلى عصر استهلاك الغاز بعد أقلّ من نصف قرن مقبل، يتيح للطموحات السعودية المتجدّدة المتقاطعة مع خطط أميركية، أن تفتح شدقيها وتحاول أن تؤدّي الدور نفسه الذي أدّاه مؤسّس دولتها بلعبة الجمع بين عصبية دينية متطرّفة، وسيوف بدوية منظّمة حسب أهواء بريطانيا وسلاحها الجوّي، مبيداً نصف السكان العرب، ومدمّراً مضاربها وقراها الفقيرة ومتمكّناً من إقصاء مئات الأسر والقبائل التي كانت تحكم المناطق، وهكذا أمّنت المخابرات البريطانية لعشيرة بدوية من الدرجة العاشرة، بتاريخ مجهول ونَسَب ضعيف، في منطقة تعيش على التفاخر بالأنساب والغزوات، ملكاً استبدادياً له وظيفة حصريّة: تأمين النفط للغرب واحتكار شركاته للاستخراج والبيع، وحراسة السكان في سجون القرون الوسطى برعاية القراءة الوهابية للإسلام.
لكن الانتقال التدريجي إلى عصر استهلاك الغاز بديلاً من البترول، يدفع إلى قراءة متعمّقة للسياسات السعودية المطبّقة في منطقة «الشرق الأوسط» منذ ست سنوات، وإظهار مدى تطابق حركاتها مع اكتشافات الغاز. فهل هي مصادفة؟ أم أنّ عبد العزيز بحلّة جديدة استفاق ليُعيد تكرار المشهد النفطي القديم؟
للإشارة فقط، لم تكتشف مملكة «المكرُمات» حقولاً غازية في أراضيها حتى اليوم، وهذا يعطي فكرة عن توجّساتها من بلدين مجاورين يحتلان المرتبتين الثانية والثالثة في لائحة أكبر منتجي الغاز، وهما إيران وقطر. فهل هذا هو السبب؟ ولا ننسى دورها في تدمير سورية بواسطة إرهاب القاعدة وداعش وجيش الإسلام والسلاح المتدفّق والتمويل بلا حساب؟!
هل هو سياسي أيديولوجي، أم أنّه يندرج في إطار الاكتشافات الغازية في الساحل السوري حتى صحراء حمص والبادية حتى تدمر ودير الزور؟
هناك أيضاً ثرثرات شركات أجنبية عن وجود كميات كبيرة في مناطق أخرى قرب الحدود السورية العراقية.
وتتوالد أسئلة شديدة البراءة عن الإصرار السعودي على إنهاء القضية الفلسطينية حتى من دون أيّ بدل سياسي… فسواحل غزة مليئة بالغاز، مهما حاول السعوديون إظهار تمسّكهم بقضية فلسطين، «قضية العرب الأولى» في المونولوج العربي للدبكة ومثيلاتها في «العرضة».
وللبنان الأخ «الشقيق» بالتعبير السعودي الدارج، عواطف كبيرة من العاهل الذي لا يعرف أين يقع لبنان، ويعرض الإعلام العربي والعالمي عن خطط سعودية لتفجير الأوضاع فيه، بعد تثبّتها من وجود غاز غزير في سواحله، وإمكانات أكبر في مناطقه الداخلية. ولكي يصفو الوضع للسعوديين، فإنّ عليهم القضاء على حزب الله حتى تخلو لهم أجواء المرح… والغاز في بلاد الأرز، الذي لا يعني السعوديين بأيّ شيء، فاهتمامهم منصبّ على التعبير عن عواطفهم في ليالي السمر والسحر، وصولاً إلى الفجر حيث الصلوات للتكفير عن آثام الليل.
وبالتفصيل، تدفع السعودية حاكم البحرين للمطالبة بقطر التي انشقّت، حسب قوله قبل عقود عدّة فقط عن جزيرته، وهذه حجة تاريخية يسندها الملك الخفيف بذريعة تثير قهقهة المتابعين بقوله إنّ قطر تستقوي بالخارج. وهذا القائل تحتوي جزيرته ذات الخمسمئة كيلو متر مربع على قاعدة أميركية وأخرى بريطانية وقوات سعودية ودرك أردني وقوات مجلس التعاون، وأخيراً قوات آل خليفة… وقوات «إسرائيلية شقيقة».
فهل ينفجر الخجل من قلة حياء والي البحرين المكلّف بدوره باعتقال التاريخ؟
ولليمن قصة مع السعودية، التي ابتدأ اهتمامها به مع توقعات بوجود نفط بمعدلات عالية، ترافقت مع حديث عن وجود كميات ضخمة من الغاز، وكانت هذه التوقعات وبالاً وخيماً على اليمن، لأنّها استولدت أكبر حركة اغتيالات وتصفيات سعودية لكلّ معارض لها، إلى جانب توزيع مكرُمات شهرية على رؤساء قبائل سياسيين يُقال إنّها تعدّت الستين ألف شخص شهرياً… والوسيلة مستمرة حتى اليوم، إنّما مع قتل وقصف يبيدان يومياً مئات اليمنيين، فإمّا أن يقبل اليمن بالخضوع، أو يجري تقسيمه حسب أهواء القيادات السعودية المستلهمة خواطر الأميركيين.
يتبيّن بالتدريج، أنّ «مملكة الخير» كما تسمّي نفسها، تريد دمج قطر بالبحرين، على أن تديرهما الرياض، وبذلك تعزل عُمان والكويت وتضعهما أمام الدخول في اتحاد فعلي أقوى من مجلس تعاون خليجي مضحك، لا يفعل إلا التأكيد على خصوصية واستقلالية هذه الكيانات، ولا تستطيع السعودية فيه فرض مواقفها إلا بالنخوة والقهوة… والضغط الأميركي.
وتسعى أيضاً إلى استلحاق اليمن بها بوضع نظام سياسي فيه يعتقل بدوره التاريخ عند حدود خنجر وزنه خمسون كيلوغراماً مع نصف كيلو من القات داخل فم يبدو متورّماً من لدغات دبابير عدة في آن واحد.
وبذلك يمسك آل سعود بحركة إنتاج الغاز في شبه جزيرة العرب، ويمنعون المواقف المشتعلة مهيّئين خططاً لإسقاط النظام الإيراني لتشكيل حلف غاز وسياسة وأمركة تجعل من السعودية قائدة دائمة للعالم الإسلامي.
ماذا عن العراق الجار؟ المحاولات مستمرة لوضعه أمام خيارين: عقد صلح فعلي مع السعودية، تستطيع بموجبه اختيار القيادات العراقية السنّية في مراكز الدولة، وإنهاء النفوذ الإيراني أو الاستمرار في تفجير الوضع المذهبي ودعم الأكراد والتساهل مع المطامع التركية في بعض مناطقه. فهكذا يكون الأشقاء على الطريقة السعودية، تقبل أو تُقتل؟ إنها سياسة الإذعان والانصياع و«نيوم» محمد بن سلمان الذي يريد الحداثة بعقلية «بائع الجواري». وينشد التواصل مع القرن الحادي والعشرين بعلوم ترقى إلى مستوى بدوي يسرق عنزة عجوز في ليلة ليلاء، وينظم فيها قصيدة عصماء. أمّا الأخوة في مصر، فالغاز عندهم لا يكفي عديدهم الذي جاوز المئة مليون لعائدات الغاز عندهم، والمطلوب جذبهم بالسياسات فقط.
هذه هي أهداف السعودية التي تريد دوراً مرجعياً تتحكم بموجبه بمعظم بلاد العرب من الصومال إلى السودان، وصولاً إلى سواحل المتوسط وضفّتي الخليج والبحر الأحمر، الأمر الذي يمنحها مكانة محوريّة في العالم الإسلامي.
في المقابل، فإنّها تسهّل للسياسة الأميركية السيطرة على الغاز في المنطقة، وذلك للتوازن الروسي الذي يعتبرون أنّه أكبر منتج للغاز في العالم، كما يؤمّنون لواشنطن القضاء على إيران، والقضية الفلسطينية وحزب الله واليمن الاستراتيجي والعراق المتمكّن.. فهل يمكن لحفيد عبد العزيز، محمد بن سلمان، ووليّ عهد أبيه، من تنفيذ طموحاته؟ تبدو كأنّها أحلام مراهق مصاب بخبل تاريخي، تجعله لا يفرّق بين فرس عنترة وأتان أبيه… فكيف يمكن لآل سعود الاستمرار في سياساتهم المهزومة وهم الذين خسروا في سورية والعراق؟ ويراوحون في اليمن ويعجزون عن الدفاع عن صديقهم ملك البحرين المحتاج إلى ست قوى أجنبية للدفاع عن نظامه؟
وقطر التي قال محمد بن سلمان إنّه لا يراها، صمدت في وجهه بصلابة وقوة، حتى أنّها تحوّلت هاجساً يؤرّق نومه… لأنّ نجاحها في مقاومته لا يعني إلا رسالة لكلّ الدول التي تستتبعها السعودية بأنّها تستطيع مقاومة طغيان الرياض، لذلك فإنّ ابن سلمان لا يعرف كيف ينتهي من أزمتَي قطر واليمن، فإذا صالحهما فسيخسر ولادات دول مجاورة أخرى تخشاه، وهو لا يستطيع الانتصار عليهما… لذلك فإنّ مأزقه كبير وقد يودي به إلى الانهيار.
المشروع السعودي إذن إلى مزيد من الجنون، لأنّه يعكس أزمة عائلة ملكية تخشى على استمرارها من التطوّرات المتلاحقة في الحروب التي انتصرت فيها سورية والعراق بتحالف روسي إيراني، وحرب اليمن التي تحوّلت مجرّد القتل من أجل القتل بعد تعذّر إنتاج مشروع سياسي تقاومه صنعاء وتقاومه الإمارات.
وواشنطن المهتمّة ببحر الصين وجنوب شرقي آسيا، لم تعد تبالي بمملكة ليس فيها إلا كميات من النفط قابلة للاستنفاد، مقابل الغاز المنبثق في مناطق أخرى وصين ترعبها لتطوّرها المتصاعد، وروسيا تقلقها من عودتها من خلال إيران.
فهل ينتهي دور «حارس القرون الوسطى»؟
خاتمة الحرب في سورية والعراق مؤشر على اضمحلال الدور السعودي الذي أصبح مصاباً بوسواس عربي من جيرة تعاديه لمساهمته في تدميرها، ومرعوباً من داخل سعودي بدأ يستيقظ من رهاب القرون الوسطى نحو حداثة القرن الحادي والعشرين.