كمين النيجر يكشف تنامي الدور الأميركي في الساحل الأفريقي
يبدو أنّ التمدّد العسكري الأميركي عالمياً، إلى جانب ترسانتها القتالية، يعزّز من احتمالات توظيف واشنطن للمنظمات المتشدّدة والتشكيلات الأصولية والإرهابية لدعم مشاريع الإطاحة بالنظم المحلية العصية على الإخضاع والتبعية.
يستدلّ بعض المراقبين في الداخل الأميركي على «الترابط بين سورية والساحل الأفريقي»، في الاستراتيجية الأميركية الشاملة، من المساعي الخفية «لإعادة تسويق» تنظيم القاعدة وإعداده كبديل «معتدل» عن داعش التجهيز لمرحلة مقبلة ومهام مطلوبة في ساحات عدة.
أما ما يعزّز هذا الاعتقاد فهو الجدل الصامت الذي يلفّ الدوائر المؤثرة في صنع القرار السياسي الأميركي، وبروز أحد صفوتها معهد راند العريق، يروّج بلغة واضحة لمرحلة ما بعد هزيمة داعش في سورية، والعراق بالطبع، دون المساس بطبيعة التواجد العسكري الأميركي بخلاف بعض التصريحات الرسمية التي «توحي» بانسحاب القوات الأميركية من سورية.
بداية، في تبرير المعهد للمراهنة على «تنظيم القاعدة» أوضح بشدة أنه تحت قيادة أيمن الظواهري «أعلن على الملأ أنه سيحجم عن استهداف المصالح الغربية». كما أنّ الفرع السوري للقاعدة «برز بصمت كبديل يبعد عن تشدّد داعش بين صفوف خارطة القوى الجهادية».
ولم يشأ المعهد أن يترك الأمر غامضاً لما يعتقده من دور وهوية يتحوّل فيه التنظيم الجديد، فقد شدّد على أنه «ينبغي على هيكل القاعدة الجديد أن يشبه حزب الله اللبناني» موضحاً أنّ التحديات المقبلة تتطلب وجود «تنظيم يؤمن بالعنف مستقلّ عن هيكل الدولة يعزز شرعيته السياسية وفي نفس الوقت يصقل قدراته لشنّ عمليات إرهابية وسياسية عنيفة على نطاق واسع».
اللافت في أدبيات المعهد المذكور إقراره بانتهاء وظيفة تنظيم داعش في خدمة الاستراتيجية الغربية بشكل عام وانتفاء الحاجة له في ما تبقى من هيكلية، نظراً لطغيان ونجاح «سيل الدعاية الجارف لداعش ضدّ الغرب ومصالحه، مما دفع بواشنطن تركيز أنظارها على تفكيك دولة الخلافة، مما أسفر عن تواجد تنظيم القاعدة في سورية بعيداً عن الاستهداف مكّنه من إعادة بناء صفوفه بحرية وصمت.. وبعد خسارة داعش لعاصمته في الرقة، فإنّ تنظيم القاعدة ربما يبقى الوحيد الذي يمتلك خبرة عسكرية تؤهّله لمنازلة نظام الرئيس الأسد».
إذن، نحن أمام «تجديد شرعية تنظيم إرهابي وتسويقه بماركة جديدة»، تحاكي الهواجس الغربية التي تطرب لسماع مفردات «الاعتدال» وما شابهها. كما أوضحت دراسة حديثة للمعهد أنّ «تنظيم القاعدة في سورية خضع لسلسة من عمليات تحديد الهوية خلال عام 2016 بتفريخها جبهة النصرة ثم جبهة فتح الشام إلى هيئة أحرار الشام».
في سياق «الحرب الأميركية على الإرهاب»، تتعدّد ساحات المواجهة والتنظيمات المسلحة والتشكيلات الإرهابية، وتتجدّد العلامات التجارية لداعش والقاعدة وبوكو حرام وحركة الشباب إلخ…
أميركياً: النيجر ونيجيريا سيّان
أعلنت البنتاغون، 5 تشرين الأوّل/ أكتوبر، عن مقتل أربعة جنود أميركيين من نخبة القوات الخاصة «القبعات الخضراء» في النيجر رافقه جدل متصاعد حول حقيقة تواجد قوات أميركية في ذلك الجزء من الساحل الغربي لأفريقيا، ومهامها والمدة الزمنية.
في حمأة التغطية الإعلامية المكثفة ضاعت هوية النيجر وتماهت مع نيجيريا بالنسبة للسردية الأميركية، بيد أنّ صنّاع القرار بما فيهم البنتاغون لهم دراية تامة ليس فقط في البعد الجغرافي فحسب، بل لضرورات استراتيجية التمدّد الأميركي، والكشف عن «حضور أميركي كبير في النيجر، خصوصاً في مطار أغادير موقع قاعدة تقلع منها طائرات الدرونز» لمراقبة منطقة الساحل الأفريقي.
فجأة «وجدت النيجر نفسها في عين عاصفة الحرب على الإرهاب محلياً وإقليمياً… وتدفق مجموعات مسلحة إلى أراضيها بعضهم يدين بالولاء لتنظيم القاعدة، والبعض الأخر يتبع داعش». تلك هي السردية الرسمية المعتمدة والتي تنطوي على عملية تمويه نجد أجوبتها في مواطن الاستراتيجية الكونية لأميركا.
قيادة القوات الأفريقية، أفريكوم، أقرّت بانتشار قواتها في المنطقة وهي هناك «لدعم جهود السفارة الأميركية» في العاصمة نيامي. بيد أنّ ما تتضمّنه وثيقة «سرية أفرج عنها مؤخراً لافريكوم، وتعود لعام 2015 تشير إلى خلاف ذلك. الوثيقة منشورة على موقع ذي انترسبت الاستقصائي .
نصّت الوثيقة على أنّ النيجر «كانت الدولة الوحيدة في شمال غرب أفريقيا على استعداد لاستضافة سرب درونز من طراز MQ-9s»، جيلٌ أكثر تطوّراً من سلفه بريداتور، ويجري العمل راهناً على تسليح ونشر تلك الطائرات بصواريخ وذخائر أخرى.
في سياق الكشف عن ملابسات مقتل جنود القوات الخاصة الأميركية برزت بعض التفاصيل كمؤشرات على ترابط «الساحات والتنظيمات الجهادية». ونُسب لقيادة قوات افريكوم قولها إنّ «نطاق عمل القوات الأميركية في النيجر يشبه الى حدّ بعيد ما نقوم به من عمليات في المنطقة منذ عام 2003».
وذهب رئيس هيئة الأركان الأميركية، جوزيف دنفورد، الى ما يعتبر أبعد من مجرد تصريح توضيحي لوسائل الإعلام، 23 تشرين الأوّل/ أكتوبر الحالي في اختتام قمة رؤساء الأركان التي رعتها واشنطن، بالقول إنّ «هناك نحو 6،000 عسكري ينشطون في القارة الأفريقية يتخذون مواقع لهم في 53 دولة.. قيادتنا تعمل مع شركائنا على الأرض في عدد من مناطق القارة وهي مهامّ شبيهه لما نقوم به في العراق وسورية وأفغانستان أيضاً».
عند التدقيق في النشاطات العسكرية الأميركية، في أفريقيا جنوبي الصحراء الكبرى، يتبيّن، وفقاً لموقع انترسبت الالكتروني، أنّ تلك القوات تجري نحو «3،500 مناورة مشتركة سنوياً أيّ بمعدل 10 عمليات يومياً تمتدّ على رقعة واسعة من أراضي الكاميرون إلى الصومال وجيبوتي وليبيا».
حادث النيجر
أوجز رئيس هيئة الأركان الأميركية ما جرى في معرض احتواء «الإهانة العسكرية» التي لحقت بالمؤسسة وعقيدتها القتالية، بالقول إنه تمّ تنفيذ «عملية استطلاعية يوم 3 تشرين الأوّل/ أكتوبر بقوة مشكلة من 12 عنصر من القبعات الخضراء برفقة 30 جندي من النيجر في قرية تونغو تونغو التي تبعد نحو 85 كلم شمال العاصمة نيامي.. وفي اليوم التالي 4 تشرين الأوّل/ أكتوبر تحركت القوات جنوباً باتجاه مقرّ قاعدة الانطلاق وتعرّضت لإطلاق نيران من ما يقدّر بنحو 50 عنصر من القوات المعادية كانت حصيلتها مقتل أربعة عناصر من القبعات الخضراء وجرح عنصرين في الكمين الذي نصب لهم، وذهب ضحيته أيضاً 5 جنود للجيش النيجري».
في الملابسات اتضح أنه تمّ سحب ثلاثة جنود أميركيين قتلى، في البداية، وفي اليوم التالي تمّ العثور على الجندي الرابع. وكانت القوة العسكرية المشتركة التقت مع رؤساء القبائل المحلية، 4 تشرين الأوّل/ أكتوبر، طالبين معلومات محدّدة حول تواجد ورقعة انتشار المسلحين في المنطقة. تردّد أنّ زعماء القبائل «تباطؤاً» عن عمد في تقديم المطلوب مما أدّى لبداية متأخرة للعملية عن الموعد المحدّد.
بعد التعرّض للكمين، طلبت القوة المشتركة تدخل الطيران الحربي «بعد انقضاء ساعة على الاشتباك»، وتحرّكت مقاتلات فرنسية لنجدتها بيد أنّ طيّاريها لم يتسنّ لهم التعرّف على هوية «القوات المعادية» لقصفها.
قيادة قوات أفريكوم أصدرت بياناً يوم 19 تشرين الأوّل/ أكتوبر، بعد نحو أسبوعين، يفيد بأنها أوفدت فريقاً للتحقيق في الحادث، وانضمّ إليه طاقم من مكتب التحقيقات الفيدرالي أيضاً».
البنتاغون في النيجر
يعود التواجد العسكري المباشر في منطقة «الساحل» الأفريقي الى عام 2002، تحت عنوان فضفاض لمكافحة الإرهاب شمل كلا من تشاد ومالي وموريتانيا والنيجر، بمشاركة فعّالة من قوات تلك البلدان العسكرية.
مضى «برنامج مكافحة الإرهاب» بتهيئة القوات المحلية وإمدادها بالسلاح والعتاد والتدريب المطلوب، وشهد تخصيص البنتاغون ميزانية بلغت 288 مليون دولار لمتطلباته في الفترة بين 2009 إلى 2013، كانت حصة «النيجر أزْيَد من 30 مليون دولار، وحصة مالي كانت الأكبر نحو 41 مليون دولار» وفق بيانات مكتب المحاسبة العام الأميركي.
في مطلع عام 2013 انتهز السفير الأميركي لدى النيجر، بيسا ويليامز، الفرصة طالباً من رئيس النيجر مامادو إيسوفو، السماح لبلاده إقامة قاعدة تستخدم لطائرات الدرونز. وبعد نحو 30 يوماً صادق الرئيس أوباما على قرار إرسال نحو 150 عسكري أميركي للنيجر. وفي شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2015 أبرمت الولايات المتحدة إتفاقية مع النيجر «للعمل سوياً في مكافحة الإرهاب» والتي تبعها تدفق القوات الخاصة الأميركية.
كما تنشط القوات الأميركية في إنشاء «قاعدة ثانية لطائرات الدرونز» تستخدمها القوات الأميركية والفرنسية المتواجدة هناك، ومن المقرّر تجهيزها للخدمة عام 2018.
حصيلة الوجود العسكري في النيجر
في ظلّ سريان مفعول المعاهدة الاميركية مع النيجر شهدت تشاد محاولتي انقلاب، 2006 و 2013 قيام القوات العسكرية في موريتانيا بمحاولة انقلاب وإطاحة الحكومة مرتين، 2005 و 2008 انقلاب عسكري في النيجر عام 2010 وانقلاب آخر في مالي عام 2012 قام به «الضابط أمادو سانوغو الذي تدرّب على أيدي القوات الأميركية» أطاح برئيس البلاد المنتخب.
ولو عدنا قليلاً الى الوراء، عام 2001، تمتعت المنطقة بحالة استقرار نسبي «وخلوها من التهديدات الإرهابية» ولكنها باتت معقلاً للعديد من التنظيمات المسلحة. وأشارت دراسة صادرة عن المكتب الأفريقي في وزارة الدفاع الأميركية الى انتشار التنظيمات والمجموعات المسلحة التالية:
«القاعدة في المغرب الإسلامي المرابطون أنصار الدين وفرع الانصار في مالي، جبهة تحرير ماسينا جماعة نصرة الإسلام والمسلمين مجموعة بوكو حرام حركة الوحدة والجهاد في الغرب الأفريقي أنصار الإسلام ولاية غرب أفريقيا».
كما برز تنظيم جديد يطلق عليه «الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى» الذي تحمّله واشنطن مسؤولية اختراق حدود النيجر ونصب كمين للقوة المشتركة من الأميركيين وجيش النيجر.
تقييم التواجد العسكري الأميركي ليس عسيراً، بل يتضح من خلال الوثائق الأميركية عينها أنّ «التواجد المباشر ساهم في تأجيج السكان المحليين وأصبح حافزاً لتجنيد المقاتلين» للانطلاق والعمل في الرقعة الواسعة من الغرب الأفريقي.
مركز الدراسات الأميركية والعربية