الوعود الدولية ليست قدراً فمن ينفذها؟ وعد بلفور وحرب سورية مثالاً

أليف صباغ ـ الجليل

مائة عام مرّت وأجيال توالت ولم يتعلّم العرب أيّ عبرة مما سمّته الحركة الصهيونية «وعد بلفور». تناول المحللون والمؤرّخون والسياسيون خلال الأسبوع الأخير هذا «الوعد»، بكلّ تفاصيله المعروفة وغير المعروفة. هل هو إعلان أم تصريح أم وعد؟ هل قُدّم إلى وايزمن أم إلى البارون روتشيلد؟ هل تحدّث عن دولة يهودية أم عن وطن قومي؟ وما الفرق بينهما؟ لقد طلب روتشيلد من الحكومة البريطانية أن تعطي بريطانيا فلسطين لليهود، ولكن التصريح تحدّث عن «وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين»! هنا تحدّث بلفور عن «شعب يهودي»، وهناك من يدّعي بأنّ بلفور قصد جزءاً من فلسطين، وليس كلها، كما طالب روتشيلد.

كلّ ذلك تفاصيل شكلية قد تهمّ المؤرّخين الذين يكتبون للتاريخ فقط. ولكن لماذا تهمّ الناس؟ ولماذا تهمّ السياسيين بالذات إن لم يكونوا من الكسالى؟ وماذا عن القضايا الجوهرية لهذا التصريح، والتي يجب ان تهمّ كلّ واحد فينا؟ أهدافهُ، والظروف التي سمحت بإطلاقه، وكيف تمّ تنفيذه؟ ولماذا فشل العرب في منع تحقيقه؟ فهل تعلّمنا الدرس أم أننا باقون على المنوال نفسه. نُولوِلُ وننوحُ ونستنكرُ ونشجبُ؟

هل ننسى من العِبر انّ بريطانيا بحثت عن مصالحها الاستعمارية قبل ان تبحث عن مصلحة اليهود، وأنّ روتشيلد لم يفكر بالفارق بين اليهود والشعب اليهودي، كما أنّ بلفور لم يفكر بفلسطين كلها أو جزء منها، ولم يتحدّث عن الفارق بين وطن قومي ودولة؟ بل كان همّه المصالح البريطانية قبل كلّ شيء، وكيف يحدّ من نفوذ فرنسا في الشرق الأوسط ويبعدها عن قناة السويس، الممرّ التجاري والعسكري، الدولي والاستراتيجي بالنسبة للإمبراطورية الكونية البريطانية؟ هذا هو الأساس الذي انطلق منه اللورد بلفور، وليس ايديولوجيته «المسيحية المتصهينة»، أو «مكافأة» للبارون روتشيلد او الدكتور وايزمن، كما يروّج الصهاينة. فالدول الكبرى تفكر بمفاهيم الدولة لا بمفاهيم الشخص، تبحث عن مصالحها، وتستخدم القوى الأخرى أدوات لها، وهكذا رأت بريطانيا باليهود والحركة الصهيونية، ليس إلا. وهذا هو الدرس الأول.

اما الدرس الثاني، فيكمن في الإجابة على السؤال، هل كانت لبريطانيا الجرأة أن تصدر تصريحاً أو وعداً من هذا النوع، قبل ان تطمئن من الموقف العربي؟ ألم يأتِ وعد بلفور بعد نقاشات عديدة، استمرّت عشرات السنين في أروقة المملكة المتحدة، وانتهت بإصدار هذا التصريح بعد مراسلات «حسين ـ مكماهون» التي وافق بموجبها «الشريف» حسين ان تكون فلسطين وطناً «للمساكين» اليهود، مقابل دعم بريطاني لآل سعود في إقامة مملكة عربية تابعة لبريطانيا؟ لماذا يغفل الإعلام العربي هذه الحقيقة الجوهرية ويغوص في تفاصيل تافهة؟ ألم تتكرّر مثل هذه المأساة لشعوبنا العربية منذ مائة عام ولغاية اليوم عدة مرات على نهج المقايضة والتبعية نفسها؟ ألم يعمل حكام العرب، منذ مائة عام ولغاية اليوم، من أجل عائلاتهم او أنفسهم وأشخاصهم، على حساب شعوبهم المقهورة وصاحبة الحق في أوطانها وخيراتها؟

والدرس الثالث، كيف تحوّل هذا التصريح إلى التزام دولي، من خلال تضمينه مركباً أساسياً من وثيقة صك الانتداب البريطاني على فلسطين؟ كيف تجرأ العالم على ذلك دون الأخذ بالاعتبار أمة عربية بلغت عشرات الملايين آنذاك، وتعيش في أهمّ المناطق الاستراتيجية في العالم؟ وأمة إسلامية بلغت مئات الملايين من البشر؟ وتشكل فلسطين أولى قبلتيها والحرم القدسي ثالث الحرمين الشريفين في عقيدتها؟ وهل كان ذلك ممكناً لولا اطمئنان العالم للقبول العربي الإسلامي الذي تمثل باتفاق وايزمان، رئيس الحركة الصهيونية، مع فيصل ابن «الشريف» حسين، في مؤتمر باريس للسلام عام 1919، بقبول العرب ان «تعطى لليهود تسهيلات لإقامة مجتمع يهودي في فلسطين»؟ والإقرار بوعد بلفور. أليس هذا القبول، هو الخنجر السعودي الثاني الذي طعن به آل سعود طموح وأماني الشعب الفلسطيني للسيادة في وطنه؟ أليس من الأجدر بنا ان نتعلّم هذا الدرس بدلاً من الدخول في تفاصيل تافهة؟

فوق هذا وذاك، كيف بنت الحركة الصهيونية مدينة القدس الغربية منذ بداية الانتداب البريطاني وحتى نهايته؟ ألم تكن البطريركية اليونانية صاحبة الأراضي الأكبر في حدود مدينة القدس وغربها آنذاك، هي من سهّلت بناء المدينة اليهودية من خلال بيع أراضي الكنيسة، وهي ليست أرضاً يونانية، إلى الحركة الصهيونية وحكومة الانتداب، فسهّلت بناء المدينة اليهودية التي تحوّلت الى عاصمة لدولة «إسرائيل»؟ لقد قامت البطريركية اليونانية، وليس الكنيسة الأرثوذكسية العربية، بين الأعوام 1921 – 1925 ببيع أكثر من 1120 دونما في حدود القدس وأكثر من 22 ألف دونم غربي القدس، وصلت حدودها الغربية الى دير المصلبة فقط، ويقع هذا الدير في وسط المدينة الغربية اليوم ، وكانت للحركة الصهيونية حصة الأسد من هذه الصفقات، لتقيم مدينة جديدة حوّلتها لاحقاً الى عاصمة. ألم يحدث ذلك بالتنسيق بين حكومة اليونان الموالية لبريطانيا والحركة الصهيونية؟ أمام بصر وسمع الزعماء العرب وعلى رأسهم آل سعود الذين حكموا الحجاز والعراق وسورية وشرقي الأردن آنذاك، ولأجل حماية مصالح العائلة «الهاشمية» لا غير؟ كيف يمكن ألا نستذكر تلك الحقائق التاريخية، في حين تقوم البطريركية اليونانية في القدس اليوم باستكمال المشروع الصهيوني لتهويد ما تبقى من القدس، ويفعل ذلك ثيوفيلوس الثالث، بصفته «بطريركاً»، بحماية دولية وعربية هاشمية، ولكن الأنكى من ذلك هو الصمت الفلسطيني المشبوه؟

طالما كانت هناك مؤامرات استعمارية حقيقية وليست «خيالاً شرقياً» على شعوبنا العربية خلال القرن الماضي وما تزال الى اليوم، ولكن أياً من هذه المؤامرات لم يكن ليتحقق لولا التعاون الرسمي العربي، ولولا الاستسلام العربي العام وكأنّ ما خططت له الدول الاستعمارية هو قدر من السماء لا بدّ من حصوله. وهذا هو الدرس الأهمّ في ذكرى وعد بلفور. لقد آمن العرب عامة والمسلمون خاصة بأنّ إقامة «إسرائيل» هو تحقيق لوعد الله الذي جاء في التوراة والقرآن على حدّ سواء، فصار وعد بلفور تحقيقاً لوعد الله. واستسلم العرب للمؤامرة على فلسطين بترويج مقولة كان لها الأثر الكبير على نفوس الفلسطينيين وهزيمتهم عام 48، «قضية فلسطين مبيوعة»، او «حكام العرب باعوا فلسطين» «البلاد تسلّمت من زمان» إلخ… فكيف يقاتل من اقتنع انه لا أمل في القتال؟ هذا الاستسلام العربي المسبق لمخططات الدول الاستعمارية، والترويج للعجز القدري، هو المرض العضال الذي يفتك بالأمة منذ مائة عام ولغاية اليوم، وهو مرض موروث في الجسم العربي من تراث الهزيمة والخنوع للسلطة الحاكمة الدموية خلال اربعمائة عام من الحكم العثماني. هذا ليس مرضاً وراثياً، وانْ أصبح للأمراض الورائية علاج لدى الشعوب الحية، ولكنه موروث لا بدّ من تشخيصه والكشف عنه. وحريّ بنا ان نتعلّم من الشعب السوري وقيادته وجيشه الذي لم يستسلم للمخططات الاستعمارية وانْ ضخت لها الرجعية العربية بكلّ أموالها وشبابها ودمائها وفقهائها ووسائل إعلامها، وجعلت من الدين الإسلامي أداة مرنة لتحقيق ذلك. سورية لم تستسلم «للقدر» بل رأت بانّ الله يحمي من يحمي نفسه أولاً، وانّ المؤامرات ليست قدراً من السماء، وانّ مقاوتها واجب ديني وقومي واجتماعي وإنساني على حدّ سواء، وانه حق وواجب مقدّر على الشعوب الحية… هذا هو الدرس الأساس الذي يجب ان يناقشه الجميع ويتعلّمه العرب في الذكرى المئوية لوعد بلفور، وإلا عادت الوعود لتحقق ذاتها وعاد العرب يستنكرون، ويندبون قدرهم…!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى