الروائية فاتن المرّ: تغوص عبر «الموت والانبعاث» في ديوان «كتبت إليك»

نظّمت منفذية راشيا في الحزب السوري القومي الاجتماعي وبالتعاون مع جمعية «محترف الفنّ التشكيلي للثقافة والفنون»، ندوة حول كتاب الشاعرة سوريا بدّور بعنوان «كَتَبتُ إليك»، وذلك في قاعة الأديب سعيد تقيّ الدين، حضرها إلى جانب الشاعرة بدّور، الروائية الدكتورة فاتن المرّ، الأديب الدكتور شوقي أبو لطيف، منفذ عام راشيا خالد ريدان وأعضاء الهيئة، النائب السابق فيصل الداود ممثلاً بعقيلته وفاء عبد الكريم الداود، طارق الداود، رجل الأعمال أسد قماش، رئيس بلدية عيحا فاضل السقعان، رئيس بلدية بكّيفا فاضل فيّاض، رئيسة بلدية بيت لهيا جيزيل خوري، لفيف من رجال الدين، إضافةً إلى ممثّلين عن الأحزاب في المنطقة، مدراء وأساتذة مدارس ورؤساء جمعيات، وحشد من المثقفين ومتابعي الشأنين الأدبي والثقافي، وحشد من أبناء المنطقة.

استُهلّت الندوة بالنشيدين اللبناني والسوري القومي الاجتماعي، ثمّ ألقت منار بدّور كلمة رحّبت فيها بالحضور.

ومن ناحيته، تحدّث الأديب الدكتور شوقي أبو لطيف عن معاني الكتابة بالشعر، والموهبة التي تتحلّى بها الشاعرة بدّور.

المرّ

وتلته الروائية الدكتورة فاتن المرّ التي شرحت عن كتاب الشاعرة بدّور، كما أعربت عن سعادتها بأن تقف لتحلّل وتشرّح قصائد صديقتها المميّزة الشاعرة سوريا بدّور، الغنية بالروائع الأدبية التي تغني المستمع والقارئ.

وقدّمت المرّ دراسة بعنوان «الموت والانبعاث» عن كتاب بدّور، حيث استعرضت مجموعة من القصائد التي تضمّنها الكتاب، وغاصت في تحليل وتشريح معاني القصائد ومضامينها الثقافية والأدبية وصوَرها الفنّية الغنية بالاستنباطات.

وفي الختام، ألقت الشاعرة بدّور باقة من قصائدها الواردة في الكتاب، والتي نالت إعجاب الحاضرين وتقديرهم الفنّ الملتزم، ثمّ وقّعت كتابها للحضور، قبل أن يشارك الجميع بحفل الكوكتيل.

ويشكّل كتاب الشاعرة سوريا بدّور الذي حمل عنوان «كَتَبتُ إليك» قيمة أدبية جديدة تضاف إلى المكتبة الشعرية اللبنانية.

«الموت والانبعاث»

بعض المقتطفات التي تضمّنتها مداخلة الروائية الدكتورة فاتن المرّ ضمن الندوة، والتي أتت بعنوان «الموت والانبعاث»، حيث أشارت إلى أنّ فكرة الموت والانبعاث ترتبط بأسطورة طائر الفينيق أو العنقاء التي تقول إن هذا الطائر ناريّ اللون عاش في الجنّة واكتسب المقدرات السماوية والحكمة، ثم أراد أن ينزل إلى الأرض لكي يكتشف كيف يعيش الناس ويشاركهم آلامهم وأحلامهم، ولكن ما يراه من عذاب وظلم يجعله يغضب ويضرب بجناحيه داخل العشّ، ما يؤدّي إلى احتراقه. ويختار الفينيق ألّا يغادر مسكنه، فيحترق معه ويتحوّل إلى رماد، ولكن بيضة تظهر وسط الرماد، يخرج منها بعد أيام قليلة طائر الفينيق الذي بعث حيّاً.

من تلك الأسطورة نستخرج مفاتيح نقتح بوساطتها بعضاً من أبواب هذا الديوان.

أوّلاً: النار

للنار قدرات هائلة ومتضاربة، فهي مدمّرة وبنّاءة، حاملة للموت، كما للحياة. يقول الفيلسوف الفرنسي باشلار إن النار تحمل قيماً متضادّة، الخير والشر. تتوهج في الجنّة وتحرق في جهنم، هي دفء وعذاب، غذاء وفناء. وللنار رمزية مقدّسة تتجلّى في قصائد الديوان، فتشير الشاعرة في إحداها بشكل واضح إلى أسطورة الفينيق أو العنقاء وإلى اثنتين من وظائف النار، وهما التطهير ثم الانصهار:

«يوقد لي الله ناراً حيث أريدك أن تتفرّج على احتراق العنقاء».

قد تحمل النار رمزية العشق، كما في قصيدة «النار القديمة»، فتشير إلى اشتعال الجسد والروح بالشهوة، ويترافق هذا الاشتعال بوصفٍ لإطار ربيعي تنبت فيه حياة جديدة: مدى أخضر وزروع واعدة وحقول عذراء وزهر طالع وخصوبة… وتختم الشاعرة قصيدتها بالإشارة إلى «النار الخالدة»، فتختصر بهذه العبارة كل معاني الموت والحياة التي يحملها هذا العنصر، كما تحيلنا إلى أسطورة بروميثيوس الذي سرق النار الخالدة من الآلهة ليهبها إلى البشر.

ثانياً: الموت

تتجلّى صورة الرماد في مواضع عدّة من هذا الديوان، كما تحمل إحدى القصائد عنوان الرماد وتصوّر البراكين الخامدة والغبار الذي ينتظر المطر، ولكن تلك القصيدة تنتهي بعبارة «موته الأول»، ويأتي هذا الترتيب ليدلّ على أنّ الموت ليس حدّاً نهائياً، وأن آخر سيليه، وليكون هناك آخر، يجب أن تكون قيامة.

فالموت عند سوريا بدّور الطويلة حدث عابر، لا يدوم كما تقول في قصيدة «خاتم العشب» 86 حيث ترسم استيقاظ الطبيعة بعد غفوة الشتاء، مفتتحة قصيدتها بظرف يدلّ على مستقبل مؤكد: «غداً يتدفّق السهل حتى جذور الجبل…». وقد يفقد الموت كلّ أبعاده المخيفة حين يخضع لإرادة جبارة تختار أن تقهره، كما حصل عندما قرّرت سناء محيدلي أن تمتشقه سلاحاً. تكتب سوريا:

«حين زرعتِ بهاء قامتك في عراء الموت عدت بالليث المدجن إلى كبرياء العرين وصار الموت حدثاً تافهاً على هامش الحياة»، والموت، كما يظهر في قصيدة، «كتبت إليك»، صقيع وصمت وسأم، وهو أيضاً ساعة الصفر، والصفر ليس فقط نهاية ولكنه بداية أيضاً، مثل الدائرة التي تتجلّى في إحدى صوَر القصيدة، زمن ينتهي وانتظار زمن آخر فيه ولادة أخرى، على وهج لقاء جديد.

ولكن ثمة خطراً يهدّد بإيقاف دورة الحياة، والتسبّب بديمومة الموت، وهو زحف الصحراء الذي يؤدّي إلى رحيل الفصول وسيادة الرمال: «وإذا تحوّلت الينابيع نفطاً والرمال ذهباً فكيف يطلع الصبح على الرعاة؟».

كما قد ينتصر الموت إذا خبتت نار الثورة، ففي التمرّد حياة، خوف من التوقف أمام جمود الطقوس، تلبية لنداء كل المتمرّدين، الذين سبقوا وسيأتون، من وقفوا في وجه الموت وغلبوه باستشهادهم، من يخشون أن يخذلهم الثائرون.

«إلى أين أصل في انتهاك الطقوس؟

أخشى إن توقفت

أن يخرج طقس من لهيب الظهيرة

ويلدغ يدي العاصية

فأدخل في دائرة الموت

وتنبذني ممالك العصاة الواقفة

في ضوء عيون الشهداء».

في دورة حياة النبات تمرّد أيضاً، فلولا تمرّد البذرة على التراب، لما تمكّنت من أن تكبر على سجيتها، أو كما تكتب سوريا «في هباء مطلق» ص.23 والشاعرة المتمرّدة قادرة على محق الظلمات حين تستخرج بقصائدها مكامن النور وتقدمها لقرائها، مثل برومثيوس الذي سرق الشعلة المقدّسة وأهداها للبشر. تقول الأسطورة إن الإنسان، حين يصبح سيد النار، يمتلك امتيازاً إلهياً، فيكون قد ارتكب فعل عصيان، تمرّد على القدرة السماوية. تحمل النار إذاً رمزية الاستقلال، وهي أيضاً تعني بداية الثقافة الإنسانية، لأن السيطرة عليها أدّت إلى تحويل الطبيعة المتوحشة إلى ثقافة، فيكون سيد النار، أي الشاعر هنا، من مؤسّسي الحضارة.

ثالثاً: الانبعاث

«وأينع قلبي على رماد الحريق»، بهذه العبارة تختصر الشاعرة المراحل الثلاث لموت الفينيق وانبعاثه، فبعد النار والرماد ربيع جديد. والربيع لا يكون إلا في رغبة متقدة ترفض أن تستكين، تلك الرغبة تسمح بالولوج إلى دائرة الموت والانبعاث. الكون يتجدّد باستمرار، هو «ممعن في الابتداء والصبا»، والطبيعة تموت وتولد، لكن دخول المرء في دائرة الحياة خاضع لرغبته في العبور من الظلمة إلى النور، مثل السنبلة النائمة في ظلمات التراب والتي تتوق إلى الحياة. والعبور إلى الحياة لا يكون إلا بدافع الحبّ، حبّ يُحْيي بلمسة الشهوة الجسد المتعب المكبل بالصقيع، وحبّ الكلمات التي تنسج النور شعراً، وحبّ أبٍ رحل جسده وبقي صوته يولد كلّ يوم. يقول باشلار إن الفينيق هو كائن اللغة الشعرية، كائن الكتب، ينبعث بوساطة الشعر، وهكذا يصبح الشعر لدى سوريا فعل انبعاث، شعلة تنتقل عبر الاجيال. كما يتجلّى حبّ الوالد في ما أهدى ابنته من ذكريات، من موهبة، من حضور، من شعاع فكر سدّد خطاها باتجاهه.

«أستعيدك وأنت تلمع فضة روحي

بذلك النور الذي رشفتَه من خيمة

في الجبال المروية بمياه صنين

والنور الذي يلمع به الأب فضة

روح ابنته هو ذلك المرسل

من معلّم جّسد بحياته

واستشهاده أسطورة تمّوز

وحقّق القيامة في فكره

الذي ما زال يعتمل في نفوس

الأجيال التي خاطبها

فكشف لها عن حقيقتها

كالشمس تطلع بعد شتاء طويل

بعث بضيائه فوق الأرض القاحلة

فنبتت أشجار ودوالي مثقلة بالعناقيد

مثل الفينيق يحترق ليولد

ويدخل المؤمنون معه

في دائرة النار والولادة

حيث يتّحدون

بلهيب روحه الخالدة.

منهم كانت سناء محيدلي التي تخاطبها الشاعرة بالقول:

احمليني إلى عرس موتك

فمن آمن إيمانك

وإن مات فسيحيا.

كما رأينا بعد الرحلة التي قطعناها مع شعر سوريا بدّور الطويلة، لا انبعاث ولا انتصار على الموت إلا بالتمرّد، هكذا المعلّم الذي أقسمنا معه اليمين على تحقيق غاية تتلخّص ببعث نهضة في هذه الأمة، تمرّد على الموروث، تمرّد على الطائفية، تمرّد على الأنانية، تمرّد على الضعف وعلى الفساد، وهو، في حياته الجديدة، يرنو إلينا، حاثّاً إيّانا على التمرّد ورفض كلّ ما يعيق الحياة التي أرادها للوطن، هكذا حبيب الشرتوني تمرّد على الزمن «الإسرائيلي»… فهل نصرناه؟ فنحن مهدّدون بالاختناق وسط الرماد الذي يحاصرنا إن لم ننتفض ونتحرّر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى