من الإبداع القوميّ
إدفيك جريديني شيبوب
بَوْح
مادَ الكون بي، كما في مَيْد السُّكر،
ساعة قلبي جُنّ في خفقة ـ
وأيُّ معنى يبقى لهذا القلب، يوم السنون توهِنهُ فيشيخ؟
وهل لذة العيش في عمل جديب موحِش:
لا طرف يتيهُ في سماءِ طرف،
ولا أنفاس تنسكب محرورة في أنفاس،
ولا قلب يصطرعُ في ضلوعِه… توْقاً لقلب؟!
في غمرة الذكريات أنا ـ ذكرياتِ حبٍّ سرمديّ النضارة.
لَكَاليوم، في فمي مشتهاه…
بالعُنق مرفقي يلوذ، تأجُّجَ شَوْق،
وعلى تكسُّرِ الأهداب لفحاتُ حُرَق،
أتحدّى الزمان والمكان،
في انطواءٍ مكتفي…
ماذا أُريد، ماذا أريد؟؟
تطويقَ أصابع على الخَصْر،
وهمس الشفتين في بَوْح،
واستناداً إلى رأس، ولا كالرؤوس!
وأن يعرف يَقيناً، أنّ معنى العمر ـ كلّ معناه ـ
تمتُّعٌ في ظلّه، وإسارٌ بنبرةِ صوته،
تنبعث دافئة من قرارٍ هادئٍ عميق،
فتعصف بوجودي نشوةً محبّبةً،
«نعمة الحياة الحب»، أقول.
أتراني كثيراً أردت؟
كيف لي أن أقنع بالأقل،
ومع أحلامي الوهّاجة المتّقدة،
أفيء إلى صقيع دنياي؟!
زَوْرَة
أهكذا سريعاً، تخطُفُه وتغيب، يا طيفَه،
فتغصُّ الأغنية الرقّاصة، حائرة في فمي،
وتختنق في قلبي؟!
لا، لا تقلْ كان حُلماً ساخراً وراح!
فيدي هذه، كانت إلى برهة، في يده،
وهُدبي على هدبه،
ووسائدي للآن، شذيّاتٌ بطيّبِ عرقه!
لا، لا أصدق أنه حلم!
إلى أين حملتَه، وطِرت به يا ليل!!
شوقي إليه… ما عانته قبلي امرأة!
لكأنه جمرٌ مستعِرٌ في العروق،
لا يَهدأ له احتراق.
أتلوّى منه في أنينٍ مكبوت،
كأنّ كلّ ما بي، ليس بي!…
ماذا أقول بعد…
في عطشٍ لا يرتوي،
وفي جوع لا يَشبع،
وتوْقٍ إلى نزهةٍ منفردة، تطول،
وإلى حديث عن الحب، لا ينتهي؟؟
وهذي العوالم الشاسعات بيننا،
ترى أين منتهاها؟
ما أقلّ رأفتَها، ما أظلمَها!
زورتَك هذه أعِدْها ـ
رجوتُك، أعدها، يا طيف!
لا تلمّسَنْ بهاتين اليدين،
جسده الجميل،
واطبق جفنيّ على روعته…
قَدَر
… اتّجهتِ العيون كلها نحو الشيخ الغريب،
مُكِبّاً بلحيتِه البيضاء،
يَفُكُّ باهتمام،
رموز الكفِ المبسوطةِ في كفه!
والفتيات خففن إلى الركن المضاء،
مشرئباتِ الأعناق، متدافعات.
وهل من فتاة، لا يشوقُها أن يداعب سمعها
خبرٌ من عالم الغيب، عن أمير أحلامها؟
… وتوالت الأكفُّ الطرية،
تتناوب راحة الشيخ الغريب ـ
يغمغمُ رؤاه، بشيء من غموض وإبهام: ـ
«ثراءٌ خلف بحر، سعادة وحب،
… حظ عاثر… اعتلال بعد الخمسين
عمر طويل…»
كومة واحدة، تجمّعت الرؤوس السوداء والشقراء،
في أرهاق سمع، غريبٍ على أمثالهن!!
… جاء دورها ـ صغراهن!
فبسطت كفّها… وانصت الكل.
عقد الشيخ حاجبيه،
كأن شبحاً مخيفاً طالعه…
ثم حدّق في الوجه الهادئ،
وفي العينين الحالمتين،
وقال في تمتمةٍ رصينة:
«زواج قريب…
وأرى في حياتك، بعد السنوات الأربع،
تجهّماً وانقلاب عيش…
قد يكون فقدان زوج!!»
وأفلتَ اليدَ من يده،
كأن لم يقل شيئاً!!
والكلمات كذلك،
لم تلبث أن ضاعت من رأس الفتاة…
سواها، لا هي،
يأبهُ لهذه الأراجيف!!
هذا توالي الأيام، يوفرُ لفتاتنا،
بحراً من حب، وأغماراً من سعد،
وفجأة يجيءُ اليوم ـ اليومُ الأسود ـ
وهوت الفأس الطائشة على حبها الطفل،
تقتلع قلبَه من بين ضلوعه!
في شبه هذيان تذكرت…
تذكرت أنْ قد مرَّ على زواجها سنوات أربع!!
بَحّار
إلى أين أنتَ شاردٌ بزورقِك الصغير،
أيها البحّار؟
أما ترى الأنواءَ تكاد تطوِّح بك…
وهذا اليمَّ الهدّار، يهمُّ بأن يبتلعَك؟
ويا جزعي من عوالي الموج،
تزمجرُ حولك، وتتعالى…
كأنها تتباهى بسطوتها عليك!
ثم لا تلبث أن ترتطم بكبرياء،
فوق الصخور الدهرية،
على الضفة القريبة.
أيُّ غويّ زيّنَ لك ركوب البحر،
في هذا اليوم المجنون،
والمخاطرة وحدَك في الزورق المترنّح؟
هل ضاقت نفسُك بالناس، وبضوضائهم،
فوجدت الراحة في أحضان البحر؟
وا خوفي عليك،
تضرب بمجذافِك زبدَ الماء،
وجَناح العاصفة يضرب شعرَك وقميصك.
هل لصفحة الماء الرجراجة أن تعلم،
وهي شاخصة إلى وجهك السادر العبوس.
هل لها أن تعلم،
ما تكتنزه نفسُك من وحدةٍ وألم؟؟
ألا حوِّل وجهك نحو شفتي، أيها البحّار،
ترَني وحيدةً مثلك،
وبي من الألم ما بك!
زورقي الذي كان يحملني بدلال ـ
عبر هذا البحر،
تحطّم من سنين…
فبقِيتُ هنا على الشرفة،
أكتفي بالتطلُّع إلى الناس،
يمرّون بزوارقهم دوني،
فتأبى عليّ كبريائي،
مرافقتَهم أو اللحاقَ بهم…
وتتوالى الليالي الموحِشات،
وأنا في غمرة الحِرمانِ الأنوف!
هل في حكايتك ما يُشبهُ حكايتي،
أيها البحّار؟؟
من مجموعة «بوح»