ما الذي تتوخاه أميركا من «اجتماع أندروز العسكري الدولي»؟
العميد د. أمين محمد حطيط
منذ اللحظة الأولى التي أطلقت فيها أميركا «النفير» داعية إلى مواجهة «داعش» وتشكيل تحالف دولي لهذا الغرض كنا نعلم وبشكل يقيني أن الدعوة مشبوهة وأنها تخفي أهدافاً أخرى تريدها أميركا وتتخذ من «داعش» قناعاً يسترها ويبرر العمل الأميركي من أجلها. فـ«داعش» ومن غير أدنى شك، ما هي إلا منتج أميركي ذو وظيفة محددة لخدمة السياسة الأميركية، وكل قول أو ظن آخر ليس من شأنه إلا التضليل، وتشتيت الجهد في معرفة الحقيقة .
والآن وبعد شهرين على الطلعة الجوية الأميركية الأولى فوق العراق لـ«ضرب» «داعش» في محيط أربيل، وبعد ما يقارب الشهر من سقوط أول صاروخ توماهوك على الصحراء السورية بذريعة قصف «داعش»، وبعد أن تأكد من كان مخدوعاً بالادعاء الأميركي أن أميركا أنشأت التحالف الدولي لمنع «داعش» من التمدّد والتوسع في العراق وسورية تمهيداً للقضاء عليه، وبعد أن تأكد للجميع بأن الادعاء الأميركي من طبيعة الأكاذيب والنفاق الموصوف المفضوح، خصوصاً بعد أن رأوا «داعش» ومنذ أن بدأت النيران الأميركية المزعومة باستهدافها، تلتهم أرضاً بمقدار 40 في المئة من مجمل ما كانت تسيطر عليه في العراق وسورية، أي ما يعني أن الضربات الجوية الأميركية لم تؤثر في أي وجه من الوجوه على خطط «داعش» في التوسع، بعد كل ذلك يبدو أن أوباما قرر الإيحاء بأنه يحضر للانتقال إلى مرحلة جديدة في سياق تدخله العسكري المتجدد في المنطقة. وكانت إشارة التمهيد لذلك تنطلق من قاعدة أندروز الجوية في الولايات المتحدة، حيث استدعي إليها قادة جيوش أو رؤساء أركان 22 دولة من دول انضمت نهائياً أو مبدئياً إلى «تحالف أميركا الداعشي». فما وراء «اجتماع أندروز العسكري الدولي» وإلى أين سيقود؟
نشير بداية إلى أن «اجتماع أندروز العسكري الدولي» عقد في ظل بيئة تشكلت اثر الضربات النارية الأميركية الاستعراضية في العراق وسورية، وما سجل خلال الفترة ذاتها من أداء متميز لمحور المقاومة أربك أميركا ومن معها، في أكثر من عنوان خصوصاً لجهة :
ـ فشل «داعش» في التمدد في لبنان عبر «غزوة الأضحى» وانقلاب الوضع ضدها في محور عسال الورد بريتال بشكل يمكن من القول بإجهاض خطة العمل الإرهابي على هذا المحور ولفترة غير قصيرة، فشل سبقه احتواء «طعنة عرسال» والتضييق على العمل الإرهابي هناك.
ـ العملية العسكرية النوعية التي نفذتها المقاومة الإسلامية في مزارع شبعا اللبنانية المحتلة ضد دورية «إسرائيلية» ما أدى وبشكل مباشر إلى تجميد العمل الإرهابي المدعوم من «إسرائيل» على محور الجولان شبعا حاصبيا، لفترة ما، ما أربك خطط التمدد إلى لبنان والوصول إلى المتوسط جنوباً .
ـ الإنجازات العسكرية الميدانية الهامة التي حققها الجيش العربي السوري من حلب إلى درعا مروراً بريف دمشق، والتي جسدت دليلاً أكيداً على أن لدى هذا الجيش استراتيجية واضحة للعمل في الميدان، استراتيجية لم تؤثر عليها خطة التحالف الأميركي الدولي للعمل المزعوم ضد «داعش» في سورية، لا بل قد يكون هذا الجيش قد استفاد بشكل ما مما قيل إنه ضرب لـ«داعش»، ومن غير تنسيق ايجابي مباشر أو غير مباشر مع التحالف الأميركي، وتمكن من تحقيق تلك الإنجازات ذات الأبعاد العملانية والاستراتيجية.
ـ الموقف الإيراني العلني والصريح، بأن أي استهداف أو أي تدخل بري ضد أحد من مكونات محور المقاومة سيرد عليه فوراً «بقسوة وبقوة وبفعالية» دونما أن يكون للرد حدود جغرافية أو نوعية .
إلى هذه العناوين يضاف ما تتمسك به تركيا من سعي لإقامة منطقة عازلة داخل سورية، معطوفاً على ما كان يجب أن تقوله أميركا في بداية عملها الناري وهو ما استدركته بعد شهرين على الانطلاق بالقصف مقرة على لسان أكثر من مسؤول فيها، بأن الضربات الجوية أو القصف عن بعد لن تحقق الأهداف في اجتثاث «داعش»، لأن المهمة – وهذا أمر بديهي – تتطلب عملاً برياً لا بد منه من أجل إنجازها، والمسألة تتطلب وقتاً طويلاً لا يقاس بالأسابيع والأشهر .
في ظل هذه البيئة العملانية والسياسية، عقد «اجتماع أندروز العسكري الدولي» الذي حضر أوباما جانباً من جلساته من أجل إيلائه الأهمية الاستثنائية وإظهار الجدية الأميركية القصوى في التعامل معه، عقد تحت عنوان البحث عن استراتيجية جديدة لتدمير «داعش»، فهل أن أميركا فعلاً تريد ذلك، أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟
إن من يتابع الأداء الأميركي لا يستطيع أن يصدق بأن هناك انقلاباً في المواقف قد حصل وأنها فعلاً تريد القضاء على «داعش» التي صنعتها واتخذتها أداة ميدانية لتنفيذ سياساتها وخططها لوضع اليد على المنطقة، بالتالي فإننا لا نرى أن الهدف من «اجتماع أندروز العسكري الدولي» محاربة «داعش» وتالياً ليس الهدف منه بلورة استراتيجية لتحقيق ذلك، فأميركا تخوض من بوابة «داعش» حرباً نفسية مزدوجة الاتجاهات فتضخم خطر هذا التنظيم الذي أنتجته، لترعب أتباعها فيشتد انضواؤهم تحت لوائها وينصاعوا أكثر لإملاءاتها، وترهب به أعداءها من أجل حملهم على التراجع والاستسلام لإرادتها، نقول ذلك وفي ذهننا ما شاءته أميركا من حرب استنزاف طويلة تحقق عبرها ما تريد، حرب لا تنتهي إلا وقد تحقق ما توخته أميركا من الفوضى المدمرة التي تنفذها «داعش» باحتضان إقليمي وأميركي، من إسقاط لحدود «سايكس ـ بيكو» في دول ثلاثة على الأقل في مرحلة أولى العراق وسورية ولبنان وفرز طائفي وعرقي في هذه البلدان، ثم إعادة تقسيم المنطقة إلى دول واهنة جديدة على الأسس الطائفية والعرقية. وبالتالي إن ما تبحث عنه أميركا هو الاستراتيجية التي تمكنها من ذلك، أي استراتيجية استنزاف وليس أي عمل آخر.
ومن أجل هذه الاستراتيجية قد يتعرض مؤتمرو «قاعدة أندروز» ومتآمروها، قد يتعرضون لبحث بعض المسائل المطروحة لجهة إقامة المناطق العازلة أو إنشاء القوات البرية المشتركة بقيادة أميركية وهم سرعان ما سيصطدمون بعقبات لا يمكنهم تخطيها في ظل الظروف وموازين القوى القائمة في المنطقة والعالم .
فعلى صعيد مشروعية التدخل، فإننا لا نعتقد بأن مجلس الأمن جاهز لإضفاء أي شرعية على عمل التحالف الأميركي «الداعشي»، في ظل إخفاء أميركا لأهدافها الحقيقية منه وإصرارها على استعمال التحالف جسراً لتمرير مشاريعها للمنطقة، بالتالي فإن أي عمل سيقوم به هذا التحالف سيبقى محل طعن بمشروعيته مع إصرار عراقي وسوري رسمي وشعبي على رفض دخول أي قوات أجنبية إلى أراضي الدولتين .
أما على صعيد إنشاء المناطق العازلة، على الحدود مع تركيا ولبنان والأردن وفلسطين المحتلة فإن هذا الأمر يلزمه تدخل بري أجنبي ما يعني الوقوع في فخ انتهاك سيادة الدول واحتلال أراضيها من قبل قوى أجنبية وهنا نعود إلى التهديد الإيراني بالرد القاسي والفوري لمنع ذلك، رد قد يستتبع توسع المواجهات واندلاع حرب إقليمية تدخل نيرانها إلى مواقع ما زالت حتى الآن بمنأى عن الحريق الإقليمي الأمر الذي لا تحتمله أميركا وأتباعها خصوصاً أنه إذا حصل فإنه لن يمكن أميركا من الاستمرار في حرب الاستنزاف التي خططت لها ولن يمكنها من جهة أخرى من حسم الأمر لصالحها .
يبقى الحديث عن تشكيل القوات البرية المشتركة لإدخالها إلى سورية والعراق، لاستثمار ما يقال عنه من قصف ناري أميركي ضد «داعش»، فإن هذه القوات إذا شكلت واستعملت سينظر إليها كقوات احتلال تستوجب الرد من قبل الدولة المنتهكة سيادتها ومعها أيضاً حلفاؤها ونقع مرة أخرى في المشهد الذي ذكرناه في حال المناطق العازلة. ما يعني استبعاد الأمر أيضاً خصوصاً أن أحداً من الدول لن يجازف في الدخول في حرب غير معروفة الأفق مع وضوح نية أميركا في إدارة حرب استنزاف تحرق بها قدرات الآخرين ولا يكون جنودها وقوداً فيها .
على ضوء ذلك نرى أن «اجتماع أندروز العسكري الدولي» لن يتوصل إلى شيء عملي ولن يغير شيئاً من المشهد وستكون مفاعيله الأساسية، في خدمة أوباما لإظهار جديته في محاربة «داعش»، صورة يريد استثمارها في الانتخابات النصفية المقبلة، كما وفي الإيحاء لدول المال العربي بأن عليها الاستمرار في دفع المال لتمويل استراتيجية يبحث عنها لدفع خطر «داعش» عنها، وأخيراً من أجل الإيحاء لمكونات محور المقاومة بأن هناك محوراً تشكل في مواجهتها ويملك الطاقات والإرادة للإمساك بزمام الأمور… إنه استعراض أميركي لخدمة مصالح أميركية بحته وتبقى «داعش» القناع والذريعة .
أما على المقلب الآخر وبكل بساطة نقول إن محور المقاومة الذي يدرك جيداً أهداف أميركا وخططها فإنه وبإصرار وعزم مستمر في العمل باستراتيجية المواجهة الحاسمة التي اعتمدها منذ نيف و18 شهراً وحقق عبرها الإنجازات الكبرى، ثم طورها الآن بما يعطل استراتيجية حرب الاستنزاف الأميركية، وما الإنجازات الأخيرة في سورية من شمالها إلى الجنوب مروراً بدمشق، كما الإنجازات في لبنان على يد المقاومة والمتزامنة مع المواقف الصارمة لإيران إلا وجه من نتائج العمل بهذه الاستراتيجية التي تمتلك من المقومات ما يؤدي إلى إفشال الخصم في مسعاه، مع التذكير بأن أميركا ليست في الوضع الذي يجعلها مطمئنة إلى نجاحها في ما تريد .
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية