على ناصية عمر!

سلوى عباس

استوقفتني الحكاية خارج نطاقها المادي لتدخلني في عالمها الإنساني. رجل في الخمسين من العمر يضع أمامه عشرات الكتب التي أحرقتها شمس الانتظار. جلس يستجدي المارّة أن يكرموه بشراء كتاب وما من مجيب… ينقّل نظره بين الذين يقلّبون هذه الكتب مستبشراً بهم رزقاً يسدّ به رمق عائلة تنتظره في البيت.

وبينما كنت أستعرض الكتب المسجّاة على الرصيف كجثّة هامدة فارقها النبض، بادرني إلى الحديث: «شو يا خانم، ما عجبك شي؟ ترى الكتاب أرخص من سندويشة شاورما». ولم يترك لي فرصة للكلام، وتابع يحدّث نفسه «لكن هذا ليس زمن الكتب والقراءة… إنه زمن الطيش واللامبالاة، فجيل هذه الأيام مأخوذ بصرعة الكمبيوتر والتطوّرات التقنية، وجاءت هذه الحرب لتحوّل أحلامهم إلى مسارات تنشد السلام والأمان… آخ من هذا الزمن الملعون»!

تدخّلت في الحديث بسؤال عن سبب مزاولته مهنة بيع الكتب، حيث هناك الكثير من المهن التي يمكن العمل فيها ويجني من ورائها مالاً أكثر من هذه المهنة. فنظر إليّ نظرة استنكار وغضب وقال: «لا… لا، لا تغلطي. هذه مهنة نعم، لكن هي من أجمل المهن وأسماها، فهل هناك عمل يحمل قيمة أهمّ من العمل الذي يقدّم العلم والمعرفة للناس؟ لكن ليت هناك من يقدّر هذه القيمة ويوليها اهتمامه. أيام زمان كانت النصيحة بجمل، وكانت تحمل الكثير من الموعظة والعبرة، فمن يجد أحداً يسدي إليه النصيحة فإنه يكون قد ظفر بأثمن قيمة فكرية يتمثّلها سلوكاً ومبدءاً في حياته. أما الآن فعلى الدنيا السلام، فأنت تقدّمين النصيحة والآخرون يتّهمونك بالتطفّل والتدخّل في ما لا يعنيك، وينصرفون عنك غير مبالين ولا مهتمين، وهذا ما يسبّب حالة الركود المعرفي والفكري التي تعاني منها غالبية جيل هذه الأيام».

وعندما سألته عن المصادر التي يحضر هذه الكتب منها أجابني بمرارة أن المصادر متنوّعة ما بين مستودعات مؤسّسة المطبوعات ووزارة الثقافة والمكتبات التي تأخذ نسبة من البيع، واستدرك في حديثه قائلاً: «أنا ورثت هذه المهنة عن والدي، وقد عملت معه وأنا عمري ست سنوات، أي قبل دخولي المدرسة، لذلك تعشّقت فكري وعقلي، ومن قلة الحيلة أبيعها على الرصيف، لعدم تمكّني من فتح مكتبة، أو حتى كشك يحتويني مع كتبي ويردّ عنّي حرّ الصيف وبرد الشتاء. والحال هكذا كما ترين. حاولت تزيين المكان ببعض أصص الورد والنباتات الجميلة، ورتّبت الكتب بطريقة جميلة وأنيقة تشبه واجهات المكتبات علّها تلفت أنظار المارّة فيُقبلون عليها، ولكن هذا كلّه لم يُجدِ».

هممت بالمغادرة فسألني: «ألن تشتري كتاباً؟». ابتسمت وقلت له: «اختر لي كتاباً»، وكنت أختبر مدى إدراكه وتقديره تلك الكتب، فأحضر لي كتاباً أعطاني إياه معقباً: «خذيه بـ350 ليرة، رغم أنّ قيمته أكبر من ذلك بملايين الليرات، وأنا واثق أنك ستسرّين منه وستشكرينني». ناولني إياه، وإذ به كتاب «العبرات» للمنفلوطي.

أخذت منه الكتاب، ابتسمت في سرّي وكأنّني قرأت في عينيه أنه بدأ حملته في تشجيع القراءة منّي أوّلاً.

سرت في طريقي ساهمة وقد استحوذ هذا الحوار بتفاصيله كلّها على تفكيري، فلا أجمل من أن يكون هناك في هذا الزمن المزدحم بالموت والشقاء من يناضل من أجل نشر الفكر والمعرفة بين الناس، بغضّ النظر عن المكان الذي يقدّم من خلاله هذه الأفكار، وهذا يعتبر عملاً جميلاً ومثمراً رغم كسبه المادي الضئيل، فهل يمكن للكتاب الذي تتناهبه التحدّيات من كلّ صوب أن يستعيد مكانه في منازلنا، أم أنّ حال الكتاب سيكون من حال هذا البائع الذي توقّف عنده الزمن منذ أن ورث المهنة عن والده، ولا يزال مؤمناً بها حتى اليوم؟

أديبة وإعلامية سورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى