نرجسية حسن نجمي في «حياة صغيرة»
أحمد الشيخاوي
«إلى نفسي…».
أن يستهلّ شاعرنا بمثل هذا الإهداء مدشّناً رابع مجاميعه بما يحيل على وازع حبّ التملّك المبرّر بنزعة الأثرة والإسقاطات الغيرية على الأنا، وفق صيغة واعية تمنح الآخر دور التشاركية والتفاعل الايجابي، فمعناه أنه يتبنّي لغة خادمة لأسلوبية مغايرة تطبع جاذبية عوالم تحتية عميقة ومترعة بالترميز كمؤشّر حيوي على مدى الانخراط في الفعل الإبداعي على مستوى استفزاز طقوس التلقي وتهيئة الذائقة لاستيعاب متتالية سردية مغرقة في خصوصيات سيرة الذات.
إنها معالجات تتمّ من زاوية اندغام الموضوعي في الذاتي والعكس صحيح.
كأنما المعلومة تجنى من عناصر خارجية تنتظر لحظة فطام أو انفصام واستقلالية على الذات، سرعان ما يغلفها إحساس الشاعر وتغذيها رؤاه سعياً إلى شعرية مستجلبة لزمن اتّزان وتصالح ونفاذ في انطباعات أشدّ تفلّتاً من أنانية المنظور بشأن اختزال الموقف مما هو امتداد للأنوية وتكملة مُتخيَلة للعالم.
بمفردات سابحة في اللازمن وملغيةً عاملَ الوقت، تُنسج شعرية باذخة، تصهرها إيقاعات ذات مشكّكة في كلّ شيء تقريباً، ومستنطقةً حيوات شتى في أدقّ التفاصيل، ضمن نَفَس يخمد ليتأجج على امتداد خارطة لتمثلات الخراب.
نصوص قصيرة جدّاً تتدفّق ملوّنة بياض ذاكرة محاصرة بأزلية الخراب، لتثخمنا بجماليات النقلة من نرجسية الحالة وأحاديتها وقطبيتها إلى عالميتها وتعدّدها.
أعلى هذا القدر من الحساسية تكون الموضوعة مدينة للذات في فكّ طلاسم ما هو برزخي مقيم فينا، تكاد تنطق به المعاناة؟
وحدها القراءة المتأنية لمنجز شاعرنا حسن نجمي «حياة صغيرة»، تسعف في الإجابة على نظير كهذا استشكال، يخلط أوراق اللعبة الكلامية، ويصبغ الفوضى على حواس التخمين وتأوّل تجلّيات الموت هاهنا، كثيمة موازية لدوالّ عتبة الديوان «حياة صغيرة».
تعالت الشمس عن رؤوسنا
والشاعر مثل طفل يصطاد الضوء
يجمع ما سقط من نجوم
والدوريّ بلا نافذة
ظلمة أخرى
رجل يطفئه الليل
هنا يمكنه أن يموت بحرّية
المَيتات يخرجن من دهاليز الليل
ينتشرن في القرى
مقذوفات من حبال السرّة إلى حبال الشنق
هنّ المَيتات
اللواتي لم يُكملن سيرتهنّ
المَيتات.
الآن، وأنا أمعن النظر في سقف الغرفة
أستطيع أن ألمس موتي، بنظرة.
في البرزخ العابر
يؤاخي المرثيّ بصيد الروح
يمّحي في مساء حكيم.
في دمي بعض من مطر يُتمك
جسدانا من ريح تحنّ إلى ينابيعها
ونتآخى في الغيم
للسان كلّ نتوء الخريطة
ولي أن أثق بالتراب
كي يُفتح صحو بابك.
والآن نرمّم سماء الحداد
نوقد في الدم ثرياتنا القديمة
كأننا نكتشف وجهينا
كأننا نعزف جرحنا
وألمسك
كما ألمس جسداً مرسوماً
أشمّك كما أشمّ رائحة مستحمّة
وكما لو كنت اتكأت
على آلة نفخ
تركت أصابعي تعبث
بضوابط النغم
انتشيت
أجبت آهتك الأولى
أحببت آهتك الأخيرة
أوه
كم خفّ جسدك
كم خفّ جسدي
هل نطير الآن؟
وأين؟
هذا الفضاء شاغر
وأنا نسيت عمري
جسدان ينامان في حلم
نصف جسد بلا وجه
قرب نصفه الآخر
كأن هذا الليل لابتكار البكاء
ولاسترخاء الكلام
ها تضايقني يداي
كيف أمسك بمرآة صدرك في الليل؟
لن أخطئ طريقي إليك
سأتّكئ على جدارك
ألتمس لي باباً
كم سأقف هنا لينفتح
وردك في الليل
أحلم بصدرك مرآة للوجود.
هي تمفصلات ستّة وسمت المجموعة لتقرّبنا من معانٍ جمّة تنتصر للإنسان الموجوع حدّ تجريب الموت.
جملة تنويعات تمتح من مقاربات وجودية وتخرج الصورة الفردانية وشخصنة الهمّ من إطار التضييق والانغلاق إلى مرايا عاكسة لنبض ينتجه الاستحضار القوي جدّاً، للرموز والعوالم الموازية وأصداء المتاهات ونكهة الفكاهة.
أكلّ هذه الاستطالات لنفق واحد؟
لعلّ روحك مغلقة؟
فجأة غمرني خراب الزمن
ولا أمكنة في هذا اليباب
بقيت وحدي.
دعك تروّض المنفى قليلاً
ودعني أداعب مستنسخات الوطن
في خراب الأزمنة
كم نحتاج إلى كآبة شاعر؟!
حورية الماء
الطفلة
الريشة.
والشاعر الذي يقضي مدّة حبسه في الانتظار
وحده الورق يعرف في أيّ فصل نحن
ولا نلتقي.
انتبه،
دمنا
ولا بدّ من جمر في الرماد.
يا دليلي، لم أعرف دماً كهذا الدم
ألسنة بلهاء ولها حكر الكلام
وهذا الصخر صامت وله ما يقوله
هو العالم حيّ فأين اللسان من دون رائحة موت؟
ضحك ودود
ها… ها…. لكنه يخجل الحجر
وحدها في غبار النعاس
تفيق مهاميزك
هبة للألفة هذا الضحك
صاح مثل ضوء
تتفكّه موقظاً أفكاراً صغيرة
كأنك تحمل رايات حروب.
دعك من موائد لا تشرب كأسك
دعك من نهارات لا تصحو
كم في يديك من ضحك؟!
عبر هذه الفسيفساء المكتظة بأقنعة الإيروتيكية والمنظومة الخطابية المُحاججة وصوفية الأفكار، راهن شاعرنا على حصان رابح، مكّنه من اختصار مسافات المعنى إلى إدراكنا، فاشتعلت أحاسيسنا بوهج تجارب ليلية تعرّي انطلاقاً من صوت داخليّ قويّ، مشاهد المرثاة والجنائزية والدم، وتفتعل أخيلة ترتع فيها فولكلورية المقابلة بين الأضداد الكونية، رصداً لتراكمات هذا الخراب كلّه.
شاعر وناقد مغربيّ