الإرهاب… وأصل الحكاية!

د. محمد سيد أحمد

حكاية الإرهاب داخل مجتمعاتنا قديمة، لكنني لا أرغب في التوغّل في تاريخ المسلمين منذ الخلافة الراشدة، حيث قتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة وهم على قمة السلطة، ثم استمرّ مسلسل القتل مع دولة الخلافة في ما يمكن أن نلخصه بكلمة واحدة وهي الصراع على السلطة، حتى انتهت دولة الخلافة في مطلع القرن العشرين في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا هي القوى الاستعمارية الأكبر في العالم وتسيطر وتهيمن على منطقتنا، فقامت بدراسة تاريخنا بعمق ودقة وتوصلت إلى أنه لا بدّ من خلق تنظيم وزراعته داخل جسد الأمة يرفع شعار الوصاية على الإسلام، ويمكن استخدامه لاحقاً في الصراع على السلطة وممارسة العنف والإرهاب.

وبالفعل تمكّنت المخابرات البريطانية من تجنيد الفتى حسن البنا مدرّس اللغة العربية للمرحلة الابتدائية في إحدى مدارس مدينة الإسماعيلية وساعدته في بناء أول مسجد للجماعة في المدينة عبر خمسمئة جنيه قدّمت له كتبرّع من مدير شركة قناة السويس، وانطلقت دعوته تحت سمع وبصر ودعم الإدارة البريطانية الحاكمة لمصر في نهاية العشرينيات من القرن العشرين وبالفعل نجحت بريطانيا في ما هدفت إليه، حيث نمت الجماعة بشكل كبير واكتسبت أرضية حقيقية على كامل الجغرافيا المصرية، حيث كانت البيئة الحاضنة جاهزة… فقر وجهل ومرض، وتديّن شعبي فطري، وهو ما جعل التنظيم ينجح في جذب أعضائه ومؤيديه عبر خطابه الديني المدغدغ للمشاعر من ناحية والخدمات التي يقدّمها للفقراء والكادحين من ناحية أخرى.

وعندما جاءت اللحظة المناسبة وكانت الحركة الوطنية في الأربعينيات تطالب بجلاء المحتلّ البريطاني كانت «الجماعة» قد بدأت في لعب الدور السياسي والصراع على السلطة، وكانت في الوقت ذاته قد تمكنت من تكوين ميليشيا مسلحة من بين أعضائها لاستخدامها في العنف والإرهاب والتصفيات الجسدية لخصومها السياسيين، وكان من أبرز ضحايا «الجماعة» محمود فهمي النقراشي رئيس وزراء مصر. وهو ما جعل الملك فاروق يردّ بقوة ويقوم بقتل حسن البنا نفسه. ثم جاءت ثورة 23 تموز/ يوليو 1952 وحاولت الجماعة أن تتصدّر المشهد السياسي وتسرق السلطة من الثوار، لكنها فشلت فقامت بمحاولة اغتيال قائد الثورة جمال عبد الناصر، وكان ردّ الفعل الطبيعي هو حملة واسعة من الاعتقالات لقيادات «الجماعة»، وفي الوقت نفسه مشروع تنموي حقيقي للقضاء على الفقر والجهل والمرض وبذلك تمكن من محاصرة مشروع «الجماعة» وخنقها بجعل البيئة الحاضنة مؤيدة للثورة ورافضة لكلّ مَن يحاول المساس بها.

وانقضت هذه المرحلة سريعاً وجاء الرئيس السادات، وكانت أولى جرائمه في حق مجتمعنا هي المصالحة مع هذا التنظيم الإرهابي في الوقت نفسه الذي تخلى فيه عن المشروع التنموي الذي قضى على كثير من معالم البيئة الحاضنة المليئة بالفقر والجهل والمرض. فعادت البيئة الحاضنة أكثر من ذي قبل وأصبحت مستعدّة لاستقبال الأفكار والمساعدات التي تقدّمها لها «الجماعة». وكانت الجماعة خلال مرحلة المحاصرة قد هاجر عدد كبير من أعضائها الى دول البترودولار وكوّنوا ثروات كبيرة أحضروها لاستثمارها في بيئة الانفتاح الجديدة. وخلال سنوات السبعينيات فرضت الجماعة هيمنتها على كامل الجغرافيا المصرية وفرّخت العديد من الجماعات الفرعية التي مارست العنف والإرهاب داخل المجتمع وكانت أبرز أعمالها هي قتل الرئيس السادات ذاته.

وجاء الرئيس مبارك وسار على نهج السادات نفسه مع تعديل بسيط في التكتيكات، فاستمرت الصفقات السياسية بينه وبين الجماعة. وفي تلك الأثناء تمكّنت الجماعة من فرض نفوذها داخل المجتمع المصري وكسب المزيد من المؤيدين والمتعاطفين عبر الخدمات التي تقدّمها الجماعة للفقراء والكادحين في الوقت الذي تخلّت فيه دولة مبارك عن مسؤوليتها تجاه مواطنيها، وعندما انطلقت شرارة الثورة في 25 كانون الثاني/ يناير 2011 كانت البيئة الحاضنة جاهزة لصعود الجماعة لأوّل مرة الى سدة الحكم، واكتشفنا في لحظة واحدة كيف تمكّن هؤلاء الإرهابيون من التغلغل وبناء النفوذ داخل بنية المجتمع المصري، ثم كانت المواجهة الحاسمة بواسطة الشعب والجيش للإطاحة بالجماعة من سدة الحكم في 30 حزيران/ يونيو 2013.

ومنذ تلك اللحظة قرّرت الجماعة الإرهابية العودة لممارسة العنف والإرهاب ضدّ الجيش والشعب، فكانت الأحداث المتتالية وآخرها حادث الواحات، ثم حادث مسجد الروضة في شمال سيناء، والذي يعدّ تطوراً نوعياً من قبل الجماعات الإرهابية التي وصلت الى حالة من اليأس بفعل تطويق الجيش لها وضرباته الموجعة، لكن لا بدّ من تأكيد أنّ المواجهة مع الإرهاب لا بدّ أن تكون شاملة أولاً بالمواجهة الأمنية الصارمة، ثم بمشروع تنموي حقيقي للنهوض بأوضاع المصريين في البيئة الحاضنة التي تعجّ بالفقر والجهل والمرض، ثم مواجهة فكرية شاملة عبر خطاب ديني واعٍ يفرض نفسه على كامل الجغرافيا المصرية. فالوعي الشعبي هو الفيصل في هذه المعركة، خاصة أنّ المشروع الإرهابي الطامع في السلطة يلتقي في مصالحه مع المشروع الاستعماري الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية وحليفتها الصهيونية لتقسيم وتفتيت مجتمعاتنا العربية.

اللهم بلّغت، اللهم فاشهد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى