نأي بالنفس أم خنوع ودفن للرؤوس في الرمال؟
العلامة الشيخ عفيف النابلسي
الكلام عن النأي بالنفس هو كلام مخادع، يُراد من ورائه محاصرة المقاومة وسلب قوّتها بطريقة ناعمة. النأي تنصّل من المسؤولية الأخلاقية والإنسانية والشرعية والوطنية والقومية بدعوى الحفاظ على الحياد والنزاهة. هذا التصوّر الواهي لا يتمّ طرحه في إطار صحيح، بل الغرض من ورائه الحدّ من دور حزب الله داخلياً وإقليمياً والتأثير عليه بهذه الشعارات منعاً لتمدّد نفوذه وهيبته، ما يعرّض مصالح أميركا و«إسرائيل» والسعودية إلى خطر. فالقضية مرتبطة بمصالح هذه الدول المستكبرة لا بالنزاهة والبراءة واستقلال وسيادة لبنان. وللأسف هناك من يُقدّم مصالح تلك الدول على المصلحة اللبنانية. إنّ هذا المصطلح الجديد لا معنى له لدى الدول المستعمِرة والمتكبّرة التي أخضعت العباد والبلاد لعسفها وجبروتها وإرادتها الغاشمة من دون أيّ اعتبار للشعوب المستضعفة ومصالحها وتطلعاتها المشروعة. وفي بلادنا مَن يواكب مشاريع المحتلين والمستكبرين بانتهازيّة واستسلاميّة وانصياع وجبن، وخرج علينا بشعارات الواقعية، وقوة لبنان في ضعفه، واللحاق بقطار التسوية، وأخيراً الإجماع العربي. وبحقكم متى كان هناك إجماع عربي يراعي مصالح العرب؟ متى كان هناك إجماع إلا على الانهزام والتراجع والفتنة وتدمير أوطاننا العربية؟ يقول البعض يجب أن لا نخرج في لبنان عن الإجماع العربي. أيّ إجماع هذا الذي يدمّر سورية وليبيا واليمن والعراق ويشرّع الفتنة في لبنان؟ أيّ إجماع هذا وفلسطين تحت سكين الاستيطان، والبحرين تحت سيف حاكم مستبدّ، واليمن تحت نيران ملوك وأمراء الشر؟ إنّ تنامي نزعة النأي بالنفس تعني أن نكون بلا إحساس ولا ضمير ولا أخلاق ولا قيم، بل أن نكون ضعافاً خانعين أذلاء أمام التكفيريّين والصهاينة. إذاً أنتم تطلبون من المقاومة أن تصمت على المجازر السعودية بحق شعب اليمن. أن تصمت أمام الحصار وسياسات التجويع والتخريب والقتل الجماعي؟ أن تدفن رأسها بالرمال فيما ديمقراطيات العالم الحرّ ترسل آلاف المجرمين التكفيريّين إلى سورية لاستباحتها وتمزيقها. أن لا تنبس ببنت شفة للذي يحصل للشعب الفلسطيني، أو للمجازر المرتكبة هنا وهناك باسم الدين! أيّ مجنون يقبل بأطروحة النأي بالنفس. بل أيّ دولة عربية نأت بنفسها وجلست تتفرج عندما واجهتها التحديات؟
فمَن يطلب نأي المقاومة بنفسها عن الصراعات في المنطقة، هو بنفسه لا ينأى عنها! بل يتدخل بكلّ صلافة ووقاحة ليعيث فيها الفساد والخراب وينشر القتل والدمار. فأين السعودية من النأي بالنفس في اليمن والعراق وسورية والبحرين؟ فلماذا لا يندّد بعض مَن ينتقد حزب الله بسياسات السعودية العدوانية؟ فقبل أن يطلب من المقاومة التراجع إلى داخل الأراضي اللبنانية، هل له أن يطلب بكفّ أيدي السعودية وقطر وتركيا عن إرسال المسلحين ودعم الإرهابيين وإشعال الفتن على أكثر من بقعة في هذه المنطقة. ثم إنّ من يطلب من المقاومة أن تنأى بنفسها اليوم، هل سيطلب منها غداً أن تنأى بنفسها عن الصراع مع العدو «الإسرائيلي»؟!
إنهم يطلبون من المقاومة أن تنأى بنفسها اليوم عن الذي يحصل من جرائم ضدّ الإنسانية وتجويع وحصار وقتل ضدّ شعوب أمتنا، تمهيداً لمرحلة جديدة يطلبون منها بطريقة أخرى أن تكفّ أيديها عن مواجهة العدو «الإسرائيلي» وترك السلاح في إطار خطة شاملة لتطبيع العلاقات العربية «الإسرائيلية» بما يُعرف بصفقة القرن، وهذا ما لا تقبل به المقاومة على الإطلاق، لأنه يكرّس الظلم والاحتلال!
الكلّ يعلم في لبنان، خصوصاً أولئك الذين طرحوا فكرة النأي بالنفس، أنّه لو نأت المقاومة بنفسها عن التهديدات الآتية من سورية لكان لبنان شعلة من نار، ولكان اللبنانيون تحت مقصلة التكفيريين إما مقتولين وإما أرقاء ونساؤهم سبايا. لكنهم يجحدون بالإنجازات التي حققتها المقاومة وبكلّ الأمن والاستقرار الذي ما كان بالإمكان أن نرى آثارهما بأمّ العين لولا هذه التضحيات والدماء الزكية للمقاومين.
المطلوب من هؤلاء، بدلاً من ضخّ مصطلحات تضليلية، أن لا ينأوا عن هذه الحقيقة الدامغة وأن يعترفوا بأن لا مصلحة للبنان إلا في الحضور إنسانياً ووطنياً وقومياً في قلب ساحات الحق والنضال! أن يعترفوا أنّ قوة لبنان وسيادته ووحدته لا يجيء بالقفز على القضايا الأساسية التي تمثل جوهر الصراع. فكيف يمكن الحصول على ثمار الأمن والاستقرار من دون تقديم استحقاقاته من الثبات والمواجهة والتضحيات!