واشنطن تستبدل الرياض وأنقرة وتل أبيب بطهران… فتتشدّد
ناصر قنديل
– كلما توجه مسؤول أميركي إلى الرياض أو إلى أنقرة أو إلى تل أبيب، لا يخفى على المراقب أن يلحظ أنّ أقدام المسؤول الأميركي في بلد، سواء كان المسؤول الرئيس الأميركي باراك أوباما أو وزيري خارجيته ودفاعه جون كيري وتشاك هاغل، لكنه يلحظ أن قلوبهم في طهران وعيونهم على طهران.
– منذ فرضت إيران على واشنطن صرف النظر عن الخيار العسكري، والقبول بالتسليم بأنّ خيار التفاوض هو الطريق للتفاهم وصياغة المصالح المشتركة، ومضمون التفاوض يطاول الملف النووي ومقابله العقوبات ومع كلّ مفردة منهما ملف إقليمي حساس، صارت واشنطن تعبّر عن اهتمامها بعلاقة مميّزة مع طهران.
– طول المفاوضات وتعرّجها لا يعني أنّ ثمة نهاية أخرى غير التوصل إلى التفاهم بين الطرفين، كما يعرف كلّ منهما، وكما يعرف كلّ متابع، فالبديل غير متاح والنقلات التكتيكية بينهما، سواء عبر التغاضي عما يقوم به الحلفاء، لإيصال رسائل القدرة، لا يمكن أن تتحوّل مرة أخرى إلى تورّط كلّ من واشنطن وطهران بالمواجهة الشاملة.
– مفاوضات قاسية يخوضها الفريقان، تطاول صورة الشرق الأوسط برمّته، نجحت خلالها إيران في إدراك سرّ الوصول إلى مفاتيح بوابات واشنطن، وهو كيفية إسقاط رهاناتها على حلفائها الكبار في ضمان مصالحها، للسعودية دواء يمني، وبهارات بحرانية، ولـ»إسرائيل» الفرن الفلسطيني بعد الأتون اللبناني، وعلى تركيا تكفي أعباء المعادلة الكردية ونتاج الخداع في ملف «داعش»، وكلما خطت إيران خطوة ناجحة في هذا الطريق وبلغتها نتائج التردّدات في واشنطن، كانت العلاقة الإيرانية ـ الأميركية تصير هدفاً متعدد الأبعاد.
– أميركا لا تخفي إعجابها بإيران وقدراتها البشرية والعسكرية والتقنية، وبحنكتها السياسية وقدرتها على التحمّل والتحرّك والتمدّد، وتتساءل لو قيّض لها حليف أو وكيل في المنطقة مثل إيران، لكانت نجحت في امتصاص الصدمات التي مثلتها الأزمات المتلاحقة منذ غزو العراق وأفغانستان.
– خاضت أميركا غمار وهم الرهان على «الإخوان المسلمين»، برعاية تركية، وحصدت الفشل في كلّ أفريقيا الشمالية، ثم خاضت وهم الرهان على المال السعودي والأمن «الإسرائيلي» متحالفين، وبينهما تشغيل «القاعدة» بمفرداتها، قبل أن تلتقط تركيا «داعش» بيد وهي وقطر يمسكان بأيدي بعض، بينما تمسك قطر بيد «جبهة النصرة».
– تدرك واشنطن أنّ القوة الصاعدة العاقلة في المنطقة هي إيران، وأنّ القوة الصاعدة الأخرى هي «داعش» وسائر مكوّنات الحلف الدموي التكفيري، كما تدرك أنّ قدرها لمواجهة الخطر الداهم والدائم لـ«داعش» وشقيقاته، غير ممكن من دون إيران وحلفائها، فوحدهم يملكون قدرة التدخل البري الذي لا يملكه جيش سعودي هُزم أمام الحوثيين، ولا تركيا المنهكة بأولويتها الكردية في كلّ حساباتها، ولا الجيش المصري المستنزف، ولا الجيش «الإسرائيلي» العاجز عن حروب البرّ بشهادة حرب غزة، ومن دون إيران لا ضمان لأمن النفط والخليج، ولا أمن العراق وأفغانستان ولبنان ممكن من دون إيران وحلفائها.
– التفاوض يدور لتحديد المفهوم الذي سيحكم الانخراط والتعاون بين اللاعب الدولي الأهمّ واللاعب الإقليمي الأهمّ، لأنّ المبدأ المحسوم هو بلوغ صيغة واضحة ومحدّدة لهذا الانخراط والتعاون، والصيغة الإيرانية الواضحة هي التفاوض والتفاهم وتحديد الخلاف وربط النزاع حيث يستعصي التفاهم ملفاً بملف، علاقة مبنية على قاعدة اللاعدوانية والتفهّم المتبادل للخصوصيات والمصالح الحيوية.
– بدأت المفاوضات بتقديم أميركا لإيران عرضاً أحادياً مضمونه أن تكون إيران وكيلاً مميّزاً بحصص ومكتسبات عالية لإدارة السياسات والمصالح الأميركية في المنقطة، فلا تزال واشنطن تحلم بإيران، لكن أميركا تريد إيران التي تدير في السياسة قضية الصراع مع «إسرائيل» لا بالمقاومة، وليس مطلوباً إيران مع كامب ديفيد، ولا إيران التي ترتضي التطبيع أو تتخلّى عن الحلفاء، لكن إيران التي تمارس نفوذها لتهدئة الصراع، وفي سورية ليس مطلوباً إيران التي تسلّم سورية لأعدائها الإقليميين، وليس استغلال نفوذها لتسهيل تسوية، بل لأن تقبل التغاضي العملي عن حرب استنزاف طويلة تنهك سورية وصولاً إلى فرض شروط تتصل بموقع سورية في الإقليم، خصوصاً في القضية الفلسطينية، ووصلت واشنطن إلى تفهّم استحالة تحقيق هذا المراد، فصار البديل المعروض دخول إيران حلف الحرب على «داعش» من دون حلفائها في روسيا وسورية وحزب الله، واليوم تصل واشنطن إلى استحالة ذلك فتنزل بسقفها حدود قبول الانخراط المشترك مع روسيا، وتجميد الخلاف حول سورية، وتقبل سياسات متعارضة في فلسطين، ويبدو أنّ الآمال المعقودة على نجاح المفاوضات الجارية رغماً عن رغبات السعودية وتركيا و«إسرائيل» بوابات أميركا التقليدية في المنطقة، علامة على اقتراب كبير أميركياً من المقبول إيرانياً، على الأقل في مرحلة إعادة بناء الثقة التي تصرّ عليها طهران.