يا محمد بن سلمان… هنا القدس من فلسطين.. فقف وتكلّم بأدب!
نصار إبراهيم
يا محمد بن سلمان! هنا القدس من دمشق، من بغداد، من بيروت، من صنعاء، من القاهرة، من الجزائر، من تونس، من عمّان، من الرباط، من الخرطوم… فقف وتكلّم بأدب!
لا أتخيّل أن ّهناك فلسطينياً أو عربياً حرّاً لم يشعر بالغضب أو الإهانة حين سمع طلب محمد بن سلمان من الرئيس الفلسطيني محمود عباس القبول بـ «أبو ديس» عاصمة للدولة الفلسطينية بدلاً من القدس، وفق ما نشرته صحيفة «نيويورك تايمز»، في عددها الصادر يوم الأحد 3 كانون الأول 2017.
يا محمد بن سلمان، قد نختلف مع الرئيس محمود عباس، وقد نتفق.. ولكن حذار من أن تتجاوز حدّك… فكيف تجرؤ على أن تخاطب فلسطين هكذا…!؟
ألم يعلّمك التاريخ بأنّ فلسطين لم تسلس قيادها يوماً لغازٍ أو غاصبٍ أو محتلّ أو تاجر نفط أو كاز، مهما طال الزمن والمقاومة!؟
يا محمد بن سلمان، كيف تزيّن لك نفسك، أيها المراهق، أنّ بمقدورك أن تبيع الحرم الثالث يا «خادم الحرمين الشريفين»!؟
يا محمد بن سلمان، إنك تتحدّث عن القدس.. وليس عن بئر نفط أو جارية أو صفقة تجارية… إنها القدس أمّ الشهداء والأسرى والتضحيات، منها يبدأ الزمان وإليها ينتهي… ألا تفهم!؟
يا محمد بن سلمان… ألم تنتبه إلى أنك تنتقل من فشل إلى هزيمة…!؟
لقد هُزمت عند أقدام دمشق، ثم فشلت في مؤامرة تقسيم العراق، وفشلت في إثارة فتنة طائفية في لبنان، حين سقطت فضيحة إقالتك السخيفة للحريري، ثم كان آخر فشل مدوٍّ لك في صنعاء العروبة والعرب…
أيّها المراهق السياسي، بعد أن سقط مشروع الفتنة في اليمن وسقط رأسها علي عبد الله صالح، الذي كنتم تطلقون عليه قبل أيام لقب «الرئيس المخلوع» ثم أصبح «الرئيس السابق» ثم فجأة وخلال يومين أصبح «بطلاً»… هل تريد الآن أن تدفع القدس فاتورة مراهقتكم السياسية وبؤس خياراتكم!؟
فكيف تعتقد أيّها المهزوم، أنك ستنتصر في فلسطين…!؟
ألم تتعلّم من دروس التاريخ بعد…؟ ألم تتعلّم أن ليس هناك فلسطيني يتنازل عن القدس أو حق عودة شعب فلسطين اللاجئ إليها..!؟
يا محمد بن سلمان، إنك لا تعرف ماذا كان ردّ الشهيد ياسر عرفات حين حاصره بيل كلينتون في مفاوضات كامب ديفيد لمدة أسبوعين عام 2000، فقد كنتَ يا محمد بن سلمان يومها مجرد مراهق غرّ، حيث طلب بيل كلينتون من الشهيد ياسر عرفات التنازل عن القدس وعودة اللاجئين.. فقال له: أسهل عليكم أن تمشوا في جنازتي من أن أتنازل عن القدس أو حق العودة… وفعلاً حاصروه في رام الله وقتلوه.. لكنّه لم يرضخ.. فمضى شهيداً.. شهيداً.. شهيداً… كما كان يريد.
يا محمد بن سلمان أقول لك.. هذه فلسطين… وهذه القدس التي هي كالسّماء أو أقرب!
يا محمد بن سلمان، ألم تدرك بعد أنّ حجراً من حجارة القدس يعادل كلّ نفطك!؟
يا محمد بن سلمان.. هل تريد أن تحافظ على عرشك… من خلال التنازل عن القدس لصديقك نتنياهو…!؟ فهل كنت تتخيّل أن ليس في فلسطين شعبٌ يحرس القدس بحدقات العيون!؟
هل يا محمد بن سلمان تريد أن تعرف ما هي القدس.. فاسمع إذن: يا محمد بن سلمان إنّها القدس على صدر الأزرق المطلق تغفو… تحدّد الأقدار والمصائر…
إنّها القدس المدينة المثقلة بأسئلة الإنسان في سياق مغامرة العقل والروح الأولى، مدينة تُدمن الرحيل والكشف، طموحها الصعود إلى السماء، إنّها فكرة وذاكرة، مسرح دائم لاشتباكات التاريخ المفتوح، يأتي الغزاة مدجّجون بالأساطير ويحاولون احتواءها، أو حشرها في زاوية ضيّقة، لكنها تأبى الانصياع، تبتلعهم وتلقي بأساطيرهم خارج أسوارها وتواصل عزف أناشيدها، فيقفون أمام أسوارها يجلّلهم الارتباك والعجز.
هي القدس… كلّ طرق الأرض والسماء تذهب إليها فتزداد توهّجاً، فهي بالأصل فكرة تراقص ذاتها بهيبة السماء.
هي القدس، كالسّماء أو أقرب!
بالأمس جاءها الغزاة بفيض من قوة ووهم، راحوا يعبثون في أعماقها علّهم يجدون ما يشير إلى عبورهم في تاريخها الممتدّ، أحاطوا أسوار مجدها بجدار رمادي بائس وبشع، لكن قبابها وبيوتها وأبراجها بقيت تشعّ مع إطلالة الفجر وغفوة المساء، هي مجرد محاولة بائسة لاحتواء المدينة الفكرة، التي كلما يحاصرها الحصار تمارس غواية الصعود إلى السّماء وترسل طوفان حضورها الهائل، قوة كامنة تسري مع الرياح إلى جهات الكون الأربع، وتعلن: أنا مدينة المدى، الألوان، الضياء، الظلال، الغناء، الرّحيل، الحضور، الغياب، الصهيل، الهديل، البحر، البرّ، الصحراء، و… التين والزيتون وبراءة الأنبياء… «وكلّ من مرّوا إلى السماء».
هي القدس كالسّماء أو أقرب!
مسكونة بفيض الرموز وفيض الرّسالات والرّسل، بفيض اليمام المعشِّش في شقوق أسوارها، والياسمين المتّكئ على شرفات المنازل، وأشجار الزيتون المبعثرة تصلي على تلالها.
يدخل الفاتحون والغزاة والعشّاق والحالمون بواباتها السبع، ومنها يغادرون فلا يبقى في ليل المدينة سوى صدى سنابك خيلهم المهزومة الراحلة، أما القدس فباقية، تعشق مَن يهامسُها بأغنية وهي تغفو على صدر الأزرق المطلق، مهرة عربية أصيلة تعرف بحدسها – كلّ لصوص التاريخ والآثار فتعصف بهم كالصحراء رمالاً وبرقاً بدون مطر.
هي القدس كالسّماء أو أقرب!
قال الفلسطيني العاشق: لا أستطيع دخول المدينة وهي على مرمى نظر! إذن، ستحملها الألوان والضوء إليّ، تأتي مع الصباح وعند المساء، صيفاً وشتاء، في مواسم القمح والسنابل ورائحة الخبز فجراً، هي المدينة المثقلة بالولادة والمقاومة.
هي القدس تتجلّى كالرؤيا، تتخطّى حدود المكان والزمان، صبية كنعانية تحمل رزمة قمح فتضيء قباب المدينة بلون الشمس، وهي تودّع أفقها الغربي، يخاصرها قوس قزح في يوم ماطر فتتلامع أشجار الزيتون ببريق الحنين.
يقول الفلسطيني العاشق: القدس تفرد قامتها وتفتح ذراعيها للريح فتحتوي ما عداها، تعيد خلق الوعي فينا، تمزج كلّ الألوان والضياء والظلال والأصوات والصمت ومفردات الطبيعة، همسات البيوت والمآذن والكنائس، تراقص الأرض والسماء والإنسان ورائحة البخور والهال والقهوة كموسيقى الخلق الشاسعة تنساب في ليلها، صهيل الماضي وحزن الحاضر وفرح الأزمان المقبلة، تسافر في الاتجاهات كلها ثم تعود منها بالأصالة والوضوح ذاتهما.
هي القدس يسعى إليها الأنبياء وتذهب إليهم، تبتعد عن السماء ما شاءت ثم تعاود الاقتراب منها حتى تلاصقها، هي خلف الجدار وأمامه، تحاصر مَن يحاصرها، واضحة ومراوغة، تستولي عليك من دون أن تنتبه، كطفل تقودك حيث تريد، تناغيك، وتعاقبك إذا أسأت الأدب.
هي القدسُ بمقدورها أن تملأ الكون حَمَاماً وسلاماً، وبمقدورها في لحظة أن تشعل الكون ناراً من غضب.
إنّها حكاية الفلسطيني العربي مع مدينة ترى ذاتها عاصمة الكون.
فهل أيّها العابر للتاريخ واللحظة تفهم!؟