ما بين «بعبع» النقل والاعتراف!
راسم عبيدات ـ القدس المحتلة
أميركا تتبنّى دولة الاحتلال من رأسها حتى أخمص قدميها… في قضايا ذات بعد جوهري واستراتيجي أكثر قيمة وأهمية من قضية ما يسمّى بنقل السفارة الأميركية، فهي دعمت وتدعم دولة الاحتلال في نهب وسرقة الأرض والاستيطان، والبقاء كدولة مارقة فوق القانون الدولي، والجميع يعرف جيداً أنّ الترويكا المتطرفة الحاكمة في البيت الأبيض متصهينة أكثر من الصهاينة انفسهم في ما يتعلق بقضيتنا وحقوق شعبنا، كوشنير وجرينبلات ونيكي هايلي يضاف إليهم السفير العنصري المتطرف فريدمان، الذي لا يعترف بأنّ «إسرائيل» تحتلّ الضفة الغربية، ويؤيد استيطانها في كلّ بقعة من فلسطين، ولذلك المواقف الأميركية ليست بالجديدة من قضية القدس منذ عام 1995، وتوقيع الكونغرس على قرار نقل السفارة الأميركية الى القدس، والإعتراف بها كعاصمة لدولة الاحتلال، والذي يستخدم منذ ذلك التاريخ من قبل الإدارات الأميركية المتعاقبة، أولاً من أجل خدمة مصالح أميركية داخلية ونوع من المزايدات الإنتخابية واستقطاب قوى اليمين والجماعات واللوبيات اليهودية لدعم هذا المرشح الرئاسي او ذاك، والمتغيّر المهم هنا، هو حالة الإنهيار العربي والإسلامي غير المسبوقة، والدعم الذي يلقاه ترامب من دول وقوى عربية مرعوبة وخائفة على عروشها المتهالكة، وبالذات المحميات الخليجية وفي المقدمة منها السعودية وقطر والبحرين والإمارات العربية، والتي تدفع مئات المليارات من الدولارات جزية لترامب مقابل الحماية… والإدارة الأميركية كلما شعرت بالحاجة للمزيد من الإبتزاز تلوّح بورقة نقل السفارة لكي تحصل على المزيد من الامتيازات وخدمة مصالحها وأهدافها، بالإضافة للحصول على المزيد من المكاسب والتنازلات العربية والفلسطينية والإسلامية، وهي اليوم تبتدع نظرية جديدة… الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال كـ«حق تاريخي وتوراتي»، وبقول مايك بنس نائب الرئيس الأميركي الموطن الطبيعي والتاريخي والأقدم، وكأن فلسطين ورثة له ولدولته، لكي يوزّعها ميراثاً، من لا يملك لمن لا يستحق، ويطلق تصريحاته المتطرفة والعنصرية، وتأتي تلك التصريحات والمقاربات الجديدة لحرف الأنظار عن الشيء الجوهري، وهو «التسونامي الاستيطاني» في مدينة القدس بغرض تهويدها، وكأنّ ضياع الأرض وتهويدها قضية ليست بالجوهرية، المهمّ عدم نقل السفارة، فالمسألة ليست فقط مهمة في لجم التطرف والانحياز الأميركي، فنقل السفارة لن يشطب لا القدس ولا الأقصى من التاريخ، بل الأهمّ من ذلك تحرير القدس والأقصى، وليس الوقوف خلف ترامب وقبول «إمامته» للعرب والمسلمين ودفع مئات المليارات من الدولارات له، ودعم خطواته ومشاريعه في الحرب التي يشنّها على العرب والمسلمين والدين الإسلامي ووسمهم بالإرهاب والتطرف، وفي الوقت الذي تتصدّى قوى ودول أوروبية لنهج وتهوّر ترامب نجد أنه أصبح القديس والمخلص للعرب والمسلمين، في تحريف وتشويه لجوهر الصراع من قبل دول عربية وإسلامية اختارت الحضن الأميركي والتفريط في الحقوق والمصالح. ولذلك آن الأوان للوقوف أمام ما هو جوهري، بعيداً عن استخدام «بعبع» نقل السفارة المستخدم في الإبتزاز والتخويف.
المقاربة الأميركية المستخدمة اليوم لإرضاء الطرف الإسرائيلي، الإعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، بدل الشروع في نقل السفارة الأميركية من تل أبيب الى القدس، وربما يجري ابتزاز الطرف الفلسطيني، عبر مقايضة قضية القدس، بقضية استمرار فتح مكتب تمثيل المنظمة في واشنطن، وهذه المقايضة، لا اعتقد بانّ هناك أيّ عاقل يوافق عليها، فالقدس مرتكز أساسي من مرتكزات المشروع الوطني، ويكفي ما ارتكبناه من خطيئة كبرى بتأجيل مصير القدس لما سمّي بالمرحلة النهائية، والتي ما زلنا ندفع ثمنها حتى اليوم، المزيد من نهب الأراضي والبؤر الاستيطانية في قلب الأحياء العربية، ويترافق ذلك مع هدم أحياء بأكملها، كما يخطط لحيّي البستان في سلوان وكبانية ام هارون في الشيخ جراح، وكذلك مخططات الانفصال وإخراج قرى وبلدات فلسطينية من حدود ما يسمّى بلدية القدس، والتي بدأت بإقرار اللجنة الوزارية الإسرائيلية للتشريع، إخراج قرية كفر عقب ومخيم شعفاط وجزء من أراضي قرية السواحرة الشرقية المصنّفة كأراضي قدس وفق التصنيف الإسرائيلي، بما يعني إخراج مائة فلسطيني من القدس ونقل مركز حياتهم الى خارجها، وتلك الخطة ستستتبع بإخراج المزيد من القرى الفلسطينية من حدود بلدية القدس، بهدف قلب ميزان القوى الديمغرافي لصالح المستوطنين، وبما يحافظ وفق زعم أصحاب تلك الخطط على «نقاء عبرانية عاصمتهم الأبدية»، وبما يشمل توسيع مساحتها لكي تكون 10 من مساحة الضفة الغربية، وضخ أكثر من 150 ألف مستوطن إليها، لتغيير مشهدها وفضائها ومكانها.
كوشنر صهر الرئيس الأميركي سيعلن عن الخطة والمشروع السياسي الأميركي للمنطقة، بعد إعلان ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال كجائزة ترضية لدولة الاحتلال، والرئيس الأميركي يعيش أزمات داخلية كبيرة، وخاصة على صعيد الأزمة المتصلة بتدخل الروس في الانتخابات الأميركية، والتي قد تطيح بمستقبله السياسي، ولذلك هذا الاعتراف يهدف أيضاً لجعل اللوبيات ورجال المال اليهود الذين يسيطرون على وسائل الإعلام الأميركي يخففون من حملتهم وضغوطاتهم عليه.
نحن ندرك بأنّ صدور مثل هذا الموقف الأميركي، يشكل تصعيداً خطيراً، ولكن «إسرائيل» وأميركا تعتقدان بأنّ هذا الوقت المناسب لطرح هذا الموضوع، فالحالة العربية منهارة بشكل غير مسبوق، والوضع الفلسطيني، لم يتعاف ولم تتحقق المصالحة، والأوضاع الداخلية خطرة جداً، وهناك دول عربية تشارك أميركا ضغوطاتها على القيادة الفلسطينية، للقبول بما يسمّى «صفقة القرن»، والتي تعني مجدّداً القبول بالحلول الموقتة واستبعاد القدس واللاجئين والحدود من الصفقة، وهذا يعني التسليم بمشروع نتنياهو للحلّ، مشروع السلام الاقتصادي، مقايضة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني بمشاريع ورشاوى اقتصادية، تحسين شروط وظروف حياة الشعب الفلسطيني مقابل تأبيد وشرعنة الاحتلال، من خلال صناديق عربية ودولية.
هذا القرار يشكل منحاً لدولة الكيان شرعية على مدينة القدس، وغطاءً للاستمرار في جرائم تهويد المدينة وطرد الفلسطينيين، وهو يدفع بالأمور نحو التصعيد وتفجر الأوضاع وعدم الاستقرار، وهذا يتطلب موقفا جماعيا فلسطينيا رسميا وشعبيا بالتصدي والرفض الحازم لمثل هذا الإعتراف والتغيير على الوضع السياسي للقدس، وبما يمكن من تعزيز صمود المقدسيّين وثباتهم، من خلال الإسراع في إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية، بدل التلهّي بالمناكفات وعمليات التحريض والتحريض المضادّ، وكذلك العالم العربي والإسلامي على المستويين الرسمي والشعبي مطالبين بالوقوف عند مسؤولياتهم، والعمل على وقف هذا القرار وتجريمه، ولا مناصّ من التوجه لعقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي، لكون هذا القرار، يشكل تحديا وقحا ونسفا لقرارات الشرعية الدولية، التي تعتبر القدس مدينة محتلة، وبات من الضروري والملحّ التوجه لمحكمة الجنايات الدولية، باعتبار ما يمارس من تطهير عرقي بحق المقدسيين، و«التسونامي الاستيطاني جرائم حرب بامتياز، يجب جلب قادة الاحتلال ومستوطنيه الى تلك المحاكم لمحاسبتهم ومعاقبتهم على تلك الجرائم.