قرار ترامب يعكس إجماع الحزبين على تهويد فلسطين

إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب إخراج القدس، وما تمثله من كيانية وهوية وتاريخ، من معادلة «التفاوض»، راهناً ومستقبلاً، هو تسليم بالسردية «الإسرائيلية» ومزاعمها التي لا تسندها الحقائق التاريخية، ناهيك عن الأبعاد السياسية والجغرافية. في جزئية بسيطة لم ينطق الإعلان باعتراف «رسمي» لضمّ السلطات «الإسرائيلية» الجزء الشرقي من القدس المتحلة، التي لا زالت مصنّفة أرضاً محتلة في الأدبيات الأميركية حتى اللحظة.

ترامب يسدّد ديناً

الإعلان حظي بدعم وتأييد أركان المؤسسة السياسية الحاكمة، وشبه إجماع من الحزبين وواكبه بعض التحفظات من داخل المؤسسة عينها وهو ما سنلقي مزيداً من الضوء عليه والخوض في دوافع الإعلان والقوى والتحالفات الضاغطة بهذا الشأن.

بداية، ينبغي لفت الأنظار إلى الدور المركزي الذي يقوم به نائب الرئيس مايك بينس، وما يمثله من مصالح وقوى تقف على رأسها التيارات الدينية المتشدّدة، وتجمّع الكنائس الإنجيلية الذي يميل إلى تفسير الكتاب المقدس وفق سردية توازي المزاعم «الإسرائيلية» والقفز على الدور الموثق، لاهوتياً وتاريخياً، بدور اليهود في الوشاية وصلب السيد المسيح.

القاعدة الانتخابية «للإنجيليين» تنتشر في الولايات الجنوبية «المحافظة» وبعض الولايات في الوسط ذات الطابع الريفي الغالب. بالمقارنة، كشف استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للأبحاث انّ «الانجيليين يشكلون أكبر كتلة دينية في الولايات المتحدة نحو 25 من مجموع السكان». بينما تتقلّص النسبة في الولايات الأخرى، ومنها العاصمة واشنطن إذ تقدّر نسبتهم بحوالي 8 من مجموع السكان.

شهدت الأيام القليلة الماضية انتكاسات متتالية للرئيس ترامب وإدارته عقب اشتداد الملاحقة القضائية لتسقط أبرز أعوانه السابقين، مستشاره للأمن القومي مايك فلين، في شباك التحقيق حول تورّط شخص الرئيس بالعمل «ضدّ المصالح القومية الأميركية،» كما يجري توصيفها. رافقتها حالة عدم إتزان واشتداد حالة القلق داخل البيت الأبيض بعد موافقة نجله البكر، ترامب الإبن، المثول أمام لجنة تحقيق في الكونغرس، مما ضيّق حيّز المناورة المتاح أمام رئيس مسكون بالهواجس وشحّ الإنجاز، وسادت أجواء «الارتياب الى حدّ الجنون».

واستكمالاً للمشهد السياسي المأزوم، علّقت السيناتور دايان فاينستاين، 4 كانون الأول/ ديسمبر، على مجريات التحقيق وإدانة مايك فلين بالقول إنّ الدلائل تشتدّ «للمضيّ بإجراءات قانونية ضدّ الرئيس بتهمة إعاقة القضاء». رافق إعلانها محاولة بائسة في مجلس النواب لتقديم الرئيس ترامب للمحاكمة باءت بالفشل، للحظة.

في تلك الأثناء أعلن البيت الأبيض عن زيارة سيقوم بها نائب الرئيس مايك بينس للمنطقة يزور فيها «مصر والسعودية وإسرائيل» ودفع بينس باتجاه «إنجاز موقف شديد الوضوح قبل بدء زيارته»، في ما يخص وضع القدس، حسبما أفادت يومية «بوليتيكو»، 7 كانون الأول/ ديسمبر الحالي، نقلاً عن «مسؤول رفيع في الإدارة الأميركية». وأضافت أنّ بينس كان «أحد، إنْ لم يكن أكثر أفراد الحضور حماسة لدفع الرئيس إلى اتخاذ قرار الاعتراف بالقدس كعاصمة، وكذلك التعهّد بنقل مقرّ السفارة الأميركية إليها».

«قرار مؤسسيّ بامتياز»

إعلان ترامب جاء متسقاً ومتكاملاً مع النهج السياسي الأميركي بحزبيه الرئيسين، الديمقراطي والجمهوري، وتتويجاً لسيل من ضغوط الحزبين في الكونغرس على البيت الأبيض، وإداراته المتعاقبة، بعد اعتماده قرار سفارة القدس لعام 1995، الذي اشترط نقل مقرّ السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس وتضمّن «ثغرة» مناورة تتيح للرئيس تعليق التنفيذ لمدة ستة أشهر «لو اعتبر ذلك يخدم المصالح القومية» الأميركية.

يشار إلى أنّ المشروع جرى تبنّيه آنذاك من قبل أعضاء مجلس الشيوخ عن الحزب الديمقراطي، جو بايدن وجون كيري، ومعارضة يتيمة من السيناتور الأسبق روبرت بيرد. أما في مجلس النواب فقد أيّده 204 من أعضاء الحزب الديمقراطي، مقابل معارضة 30 عضواً، ساندهم العضو «المستقل» بيرني ساندرز في رفض القرار. وعارض القرار عن الحزب الجمهوري السيناتور بوب دول وانقلب على موقفه مؤيداً بعد إعلانه الترشح لمنصب الرئاسة في انتخابات عام 1996.

في عهد الرئيس ترامب، صوّت مجلس الشيوخ مرة أخرى لصالح تنفيذ القرار، في شهر حزيران من العام الحالي، بنسبة 90 مؤيّداً مقابل صفر معارضة، مطالبين الرئيس ترامب «التقيّد بأحكام» القرار. من أبرز القيادات المتحمّسة للقرار الأخير كان «رئيس المجموعة الديمقراطية» في مجلس الشيوخ تشاك شومر، ونائب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في المجلس بن كاردين، وآخرين.

على الشق الشعبي المقابل، كشفت استطلاعات الرأي حول مسألة «نقل السفارة الأميركية» الى معارضة 81 من انصار الحزب الديمقراطي، مقابل 15 من المؤيدين. وبناء عليه، يتضح حجم الشرخ بين القاعدة الشعبية وممثليها في الكونغرس الذين يصوّتون حسب مصالح اللوبيات الكبرى استطلاع أجرته جامعة ولاية ميريلاند بالتعاون مع نيلسون سكاربورو، أوائل تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 .

من المفيد أيضاً التذكير بأنّ البرنامج الانتخابي للمرشحة الرئاسية لعام 2016، هيلاري كلينتون، حمل تأييداً صريحاً للقرار واستطاعت المرشحة إدخال جملة معترضة في بيان مؤتمر الحزب بأنّ القدس «ينبغي أن تبقى عاصمة لإسرائيل». كما أنّ المرشح الرئاسي دونالد ترامب أعرب عن نيته «الاعتراف بالقدس كعاصمة». أسوة بأسلافه الرؤساء بدءاً من: بيل كلينتون، ومروراً بجورج بوش الإبن، وانتهاء بباراك أوباما.

للإنصاف، شهدت جولات الانتخابات الرئاسية للحزب الديمقراطي، منذ عام 2010، تضمين بند في برنامج الحزب ينص على الاعتراف «بالقدس كعاصمة لإسرائيل».

وعليه، يتهاوى غشاء «الصدمة» من توقيت وإعلان الرئيس ترامب والذي لم يأتِ من فراغ أو كحالة استثنائية بل تجسيداً لإجماع سياسي بين قادة وأعضاء الحزبين وامتدادهما في المؤسسات الرئيسة.

تحفظات ورضوخ

كان جلياً عدم حماس بل ومعارضة أركان مؤسسة العلاقات الخارجية، ومنها وزارة الخارجية الأميركية، الذين تنصبّ اهتماماتهم على مفاضلة «الاستقرار» والابتعاد قدر الإمكان عن الوفاء بالوعود الانتخابية خاصة تلك التي تتعارض، ولو مرحلياً، مع الاستراتيجية الأميركية.

الثابت والموثق في هذا الشأن معارضة الثنائي وزيري الخارجية والدفاع، ريكس تيلرسون وجيمس ماتيس، على التوالي، للقرار، كما أفادت كبريات المؤسسات الإعلامية. وأوضحت يومية «واشنطن بوست»، 6 كانون الأول/ ديسمبر الحالي، انكباب مسؤولي وزارة الخارجية على تشكيل فريق عمل للطوارئ بغية جمع أقصى مدى من المعلومات في المنطقة العربية والإسلامية وتنسيق الردود عليها ومركزيتها بدافع خشيتها العالية لمصير الموظفين الأميركيين في المنطقة، وكذلك للسياح الأميركيين.

المؤسسات المرادفة للعلاقات الخارجية أيضاً أعربت عن عدم رضاها، بل معارضتها، للقرار. جولة سريعة على أبرزها تدلّنا على المحطات التالية:

مجلس العلاقات الخارجية الرصين، على لسان رئيسه ريتشارد هاس حذر من أنّ القرار «سيضاعف منسوب التوتر ويؤدّي لإشعال العنف في ظرف نشهد فيه توترات وعنف في العالم أكثر مما لنا قدرة على تحمّله».

مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، ذات النفوذ الكبير في كافة الإدارات الأميركية، كان شديد الوضوح في معارضته، 7 كانون الأول/ ديسمبر، بالقول «لم يكن هناك أيّ سبب دنيوي لاستفزاز العالم العربي. كلّ ما كان يتعيّن على الرئيس ترامب فعله لمساعدة «إسرائيل» هو التغاضي عن خطابه الانتخابي والابتعاد عن المتشدّدين من الساسة الإسرائيليين، ولا يفعل شيئاً».

بادر معظم السفراء الأميركيين السابقين لدى تل أبيب، وعددهم أحد عشر سفيراً، الاتصال بصحيفة «نيويورك تايمز»، 7 كانون الأول/ ديسمبر، للإعراب عن معارضتهم لقرار الرئيس ترامب، باستثناء اثنين «بشأن القدس.. إنه قرار خاطئ، وخطير أو اختلال معيب» وما فعله يعدّ تنازلاً ديبلوماسياً كبيراً دون مردود ملموس بالمقابل وفق توصيف الصحيفة. الاستثناء كان السفير الأسبق اوغدن ريد، في عهد الرئيس ايزنهاور والآخر إدوارد ووكر الإبن، الذي عمل سفيراً من عام 1997 الى 1999، في عهد الرئيس كلينتون .

قوى الدفع

عدد من المصادر الأميركية، سياسيين وإعلاميين، أماط اللثام في الأيام الأخيرة عن هوية أبرز «صانعي» قرار ترامب، دون إغفال دوره الشخصي المؤيد لذلك، عقب لقاء ونقاش داخلي صاخب ترأسه ترامب «أواخر الشهر الماضي»، ضمّ فريق مستشاريه للشؤون الخارجية. اللافت في السردية الأميركية أنّ ترامب خصّص نحو 15 – 20 دقيقة لحضور اللقاء «لكنه قضى نحو ساعة كاملة.. مصرّاً على وفائه بوعوده الانتخابية ضارباً بعرض الحائط تحفظات جيمس ماتيس وريكس تيلرسون» لاعتبارات أمنية تخصّ سلامة الرعايا الأميركيين.

ما نستطيع الجزم به هو أنّ القرار كان ثمرة اتصالات ومشاورات أجراها ترامب مع «بنيامين نتنياهو.. وولي العهد السعودي محمد بن سلمان» يومية «فاينانشال تايمز» البريطانية، 7 كانون الأول/ ديسمبر نائب الرئيس مايك بينس صهر الرئيس جاريد كوشنر محامي ترامب السابق ومبعوثه للشرق الأوسط جيسون غرينبلات مدير وكالة الإستخبارات المركزية مايك بومبيو اسبوعية «ذي أميريكان كونسيرفاتيف»، 7 كانون الأول/ ديسمبر.

كما حرصت الصحيفة البريطانية المذكورة على إبراز دور الأمير محمد بن سلمان في افتتاحية عددها، 7 كانون الأول/ ديسمبر، نقلاً عن مصادرها في الإدارة الأميركية بالقول إنّ الأخير «.. لعب دور الوسيط بين الفلسطينيين وجاريد كوشنر ومن شأن الإعلان وضع عقبات في طريق السعودية، كوسيط ترامب المفضل في المنطقة».

واوضحت يومية «نيويورك تايمز»، 3 كانون الأول/ ديسمبر، ما رشح عن اتفاق كوشنر وبن سلمان باستدعاء الأخير لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس «وممارسة أقصى الضغوط بغية قبوله بعرض كوشنر» إعلان قرية أبو ديس عاصمة لدولة السلطة «والوعد بسخاء التمويل السعودي». كوشنر، بخلاف الديبلوماسية الأميركية التقليدية، لا يحبّذ صيغة «الحلّ النهائي» التفاوضي وفاز بتأييد الرئيس ترامب للمضيّ في نهج «التسليم بكلّ المطالب والأحلام الإسرائيلية والحيلولة دون تقديم أيّ نصر للجانب الفلسطيني».

واضافت نشرة «ذي أميركيان كونسيرفاتيف» نقلاً عن «مصدر رفيع في البنتاغون وعلى اطلاع بتفاصيل ما جرى» أنّ ترامب أنصت للتحفظات المطروحة وخاصة العزلة التي ستفرض على الولايات المتحدة بين حلفائها الدوليين، إلا أنه أصرّ على المضيّ بقراره «على الرغم من الصعوبات الناجمة عنه». وحول مقرّ السفارة أوضح ترامب أنه ليس من الضروري المباشرة بنقل السفارة من تل أبيب على الفور، مما سيهدّئ بعض المخاوف لدى قادة المنطقة.

أما المحرك الحقيقي لتوقيت إعلان ترامب فقد وصفه «مسؤول رفيع في الإدارة» بأنّ الرئيس «أنعشه التقدّم الذي أحرزته المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية على أيدي جاريد كوشنر وفريقه». للدلالة، نشير إلى ما نقله أحد الصحافيين على لسان ذلك المسؤول قائلاً «ندرك أنّ الجزء الأعظم من التقدّم في المفاوضات ليس مرئياً أو ملموساً».

استعراض مروحة من التصريحات الأميركية حول التحذير من «مخاطر مرئية» لقرار ترامب يعزّز نظرتها الدونية للنظم الرسمية العربية. ولخصها المسؤول السابق للعمليات السرية في وكالة الاستخبارات المركزية، جون بينيت، بالقول «من دون شك سنلحظ تظاهرات معادية لأميركا في المنطقة ، لكن كم سيبلغ حجمها والى متى ستستمرّ؟ كم من العرب سيكون مصدوماً حقاً أو يعتقدون أنّ الولايات المتحدة لم «ترجّح» كفة إسرائيل؟ هل ستقدم دول الخليج على إعادة فرض حظر توريد النفط؟» مستدركاً أنّ الإجراء الأخير، لو قدّر له التنفيذ، سيكون «بالغ الأهمية».

الساسة الأميركيون المخضرمون أوضحوا لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ما كان ينبغي على الرئيس ترامب الإقدام عليه في سياق الصراع الإقليمي الأوسع مع إيران، ولو «أحجم عن فعل أيّ شي كان بإمكانه تفادي منح إيران وحزب الله واحتمالاً روسيا وسورية الفرصة وتزويدهم بذخيرة ديبلوماسية لاستغلالها ضدّ إسرائيل، أو ضدّ الشركاء الاستراتيجيين لأميركا من العرب…»

مركز الدراسات الأميركية والعربية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى