واشنطن تحاول «استمالة» لبنان بعد مواقفه اللافتة بشأن القدس

روزانا رمّال

في الوقت الذي كان فيه الرئيس ميشال عون يوجّه كلمته في القمة الإسلامية المنعقدة في اسطنبول، بدعوة من الرئيس التركي رجب طيب اردوغان للبحث في القرار الأميركي تهويد القدس، كانت السفيرة الأميركية في لبنان اليزابيث ريتشارد تزور السراي الحكومي مع وفد عسكري أميركي وقبله قائد الجيش وتتحدّث عن مساعدات الولايات المتحدة الأميركية للجيش اللبناني بقيمة 120 مليون دولار تقدّمها واشنطن له لتعزيز أمنه. السفيرة الأميركية، شدّدت من السراي الحكومي، على أهمية سياسة النأي بالنفس المطلوبة من لبنان بطبيعة الحال، خصوصاً بعد أزمة الحريري. ولفتت الى أن الولايات المتحدة ملتزمة بدعم دولة لبنان ومؤسساتها، بما فيها الجيش اللبناني.

ليس معروفاً حتى اللحظة اذا كانت واشنطن تطلب من لبنان النأي بالنفس عما يجري في القدس المحتلة أيضاً، واذا كان توقيت تحركها او زيارتها في وقت ينشغل رئيس الجمهورية ووزير خارجيته بملف فلسطين، وهما خارج البلاد، فإن زيارتها وحديثها عن الدعم الأميركي المفترض أن يتلقفه رئيس الجمهورية أولاً، ويصبّ في خانة التشويش على مواقف لبنان وابتزازه بما تقدّمه واشنطن من مساعدات الى لبنان. الخطوة الأميركية هذه بتوقيتها تهدف إلى أمرين أساسيين:

أولاً: ما يشكّل نوعاً من الابتزاز حيال مواقف لبنان التي دعا إليها وزير الخارجية جبران باسيل في اجتماع الخارجية العرب ومطالبته بإجراءات تنفيذية تصل حدّ مقاطعة الولايات المتحدة وتأكيد الرئيس عون ذلك بعد أيام في القمة الإسلامية في اسطنبول مع رسمه خطوطاً للتحرّك بوجه الأميركيين وكلّ من يحذو حذوهم عبر تدويل الأزمة ورفعها لمجلس الأمن وصولاً للتحرّك الشعبي والمقاطعة.

ثانياً: محاولة استمالة الشعب اللبناني بعد موجة الغضب العارمة التي عايشها محيط السفارة الأميركية في عوكر، جراء الاعتصام اعتراضاً على تهويد القدس أميركياً. وقد جرت اشتباكات بين المتظاهرين وقوى الامن ومحاولات لاقتحام السفارة.

ثالثاً: محاولة واشنطن بث الفرقة بين جزء من اللبنانيين والفلسطينيين خصوصاً، واستمالة موقف هذا الجزء «اللبناني» للدفاع عن أميركا ودورها في مساعدة لبنان وحمايته ودورها في مساعدة الجيش في مكافحة الإرهاب. وهذا من شأنه أن يشكل أرضية خلاف عنصرية بين اللبنانيين أولئك والفلسطينيين الذين اعتصموا أمام السفارة في عوكر في حال تكرّر المشهد.

خطوة السفيرة الأميركية التي يشوبها الحذر في هذا التوقيت، والتي اختارت فيها فوراً إعادة التذكير من السراي الحكومي بأن بلادها تقف مع الجيش اللبناني هي خطوة واقعة ضمن نجاح لبنان ببث موقف لافت حول القدس، لا بل إن لبنان كما ظهر هو الأكثر قدرة من بين الدول العربية جميعاً على خلق رأي عام عربي فاعل حول هذه القضية. وبدا بوحدة السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية بالموقف من أقوى الدول التي استهدفت الموقف الأميركي، خصوصا لما فيه من خصوصية رئيس جمهورية مسيحي، أضيف اليها موقف حادّ على لسان وزير خارجية مسيحي أيضاً أمام العرب استطاعت كلمته أن تعطي مفعولاً مضاعَفاً.

شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن باسم المجموعة الإسلامية المنعقدة لتعطيل القرار الأميركي وإلزام الولايات المتحدة بالتراجع، هو ما طالب به الرئيس اللبناني ميشال عون في اسطنبول مع نجاح لبناني استثنائي بلفت الأنظار ضرورة الخروج بقرارات وإجراءات تنفيذية تتناسب وحجم الخطر المحدق بالقدس يُضاف إليه نجاح زيادة على النص الختامي اعتبار القدس بما ترمز إليه إسلامية ومسيحية ويهودية.

السفيرة الأميركية التي تتحرّك وفق هذه المعطيات تدرك اليوم أن لبنان أشد المتابعين للأزمة وأكثر القادرين على تحريك الملف «إعلامياً» من بين الدول العربية، وأن بيروت وحدها شهدت تظاهرة تصعيدية أمام السفارة الأميركية تنديداً بالقرار. وهي وحدها من بين الدول العربية، وهو ما يتكفّل وحده أن يشعر الأميركيين بالقلق، ويجعل فكرة «استمالة» أو العمل على التشويش على تحرّكهم أبرز ما يجب أن يكون في المرحلة المقبلة.. كيف هذا كله مع معرفة الأميركيين و»الإسرائيليين» أنه وللمرة الأولى توحّد القرار اللبناني حول قتال «اسرائيل» ومعارضة القرار الأميركي، بما يعنيه من تأييد شعبي ورسمي سيحظى به أي تحرّك لحزب الله نحو القدس بالدعم المعنوي أو الشعبي بأقل تقدير للوقوف الى جانب حركة حماس والجهاد الإسلامي وغيرها من حركات المقاومة. وهذه الخطوات لن تقف حائلاً ضد سياسة النأي بالنفس عندما يتعلق الأمر بفلسطين، لأن أي معترض هو مدان في موقف كهذا.

إعلان السفارة الأميركية عن برنامج مساعدات عسكرية أميركية للبنان تتضمّن أجهزة دفاعية تساعد الجيش على تعزيز قوته للدفاع عن الحدود وحماية الشعب اللبناني، وهي كلها محاولات أميركية لضبط النفس وتذكير اللبنانيين بمحطات طيبة تجاه لبنان، خصوصاً المؤسسة العسكرية. وهي المؤسسة الأكثر قدرة على استعطاف الشارع اللبناني والتي تلعب الولايات المتحدة على وترها بـ «دهاء».

شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن باسم المجموعة الإسلامية لتعطيل القرار وإلزام الولايات المتحدة تطبيقه مع حملة دبلوماسية تهدف لتجميع عدد أكبر من المعترفين بدولة فلسطين كدولة عضو في الأمم المتحدة، أي إجراءات دبلوماسية وسياسية تُضاف إليها إجراءات «عقابية» موحّدة ضد أي دولة تنحو منحى الاعتراف بتهويد القدس، مدعومة بضغط شعبي هي «خريطة طريق» الرئيس ميشال عون للتصدّي للقرار الأميركي ويكفي ذلك للأميركيين لقراءة الفوارق بين البيانات الخطابية والمبادرات الإجرائية، ما يكشف بطريقة أو بأخرى نيات لبنان تجاه الأميركيين عندما تتعلق الأمور بالاولويات.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى