في إعادة الإعمار

في إعادة الإعمار

العامّة والعوامّ ومفهوم الفضاء العام

الفضاءات بين الفضيلة والفضلات

من المؤكّد الذي لا يحتاج مزيداً من التأكيد أن ما تحتاجه حواضرنا غير المستوفية لشروط التحضّر هو المزيد من فضاء لا من بناء، ما يجعلُ «بعض» الدّمار الناجم من مِحنة الحرب مِنحةً لإعادة توازن مفقود بين كمّ هائل من فائض ركامٍ أصمّ مقابل شُحٍّ وعَوَزٍ مُنقطع النّظير، وافتقار كبير إلى فضاءات مدنيّة ومدينيّة عامّة ومفتوحة ـ خضراء أو غير خضراء ـ وإعادة بعض اعتبار للإنسان من خلال وقفِ استباحة المركبات لما تبقّى من المدينة في المدينة، واجتياحِ الإسمنت والإسفلت لما تبقّى من أرواحنا إذا ما كنّا معنيّين بحضريّتنا ومدنيّتنا أكثر من بدويّتنا، وذلك من خلال تصويب العلاقة مع المدينة، وتلك ما بين المواطن ووطنه، وإلّا كيف تستقيم الوطنيّة والمواطنيّة. وكذلك بتصحيح العلاقة ما بين العامّة أو العوام والفضاء العام. علينا أن ننهي ش التاريخيّة مع هذا المفهوم، لطالما افتقرت مدننا للفضاءات الاحتفالية، وللميادين المدنيّة والمدينيّة، وهو ما لا يمكن تعويضه بالمقهى، وفضاء المتنزّه خارج المدينة، أو فضاء السوق، وحتّى باحة الجامعة غير الجامعة، وفضاء الجامع غير الجامع، الذي يحتكر الحياة العامّة، الجمعيّة والمُجتمعيّة، ويختزلها في صلاة الجمعة، وليست بالفضيلة الركون إلى كما أنّه الفضاءات الداخليّة الفارهة والجميلة، أو الفناءات والباحات الخاصّة التي لا تنفِ بل تُعزّز النُّزوع إلى الفرديّة، والانحسار نحو الذّات والملذّات، والانكفاء عليها، والانسحاب من الفضاء الجمعيّ، والمُجتمعيّ العام، وإدارة الظَّهر له، ووسمه ووصمه بالرذيلة، أمّا ثقافة النظافة التي ندّعي فهي لا تتجاوز حدود البوّابات نحو الخارج المنتهك.

علينا أن أنّنا نفتقر بشكل حادّ ومُزمِن في آن، إلى ثقافة الفضاء العام وما فيها من فضائل التجمهر غير القطيعي، أو الانفعاليّ والغرائزي، والاحتفاء بالاجتماع المدني والمديني كأعلى درجات التحضّر الانساني.

في الواقع، ليس الفضاء العام في ثقافاتنا الموروثة، والمكرّسة في ممارساتنا المتفاقمة مؤخّراً، أكثر من معابر أو مواقف للسيّارات، أو مكبّات للنّفايات والفضلات، أو لزوم ما لا يلزم من «وجائب»، ومساحاتٍ هي فرص استثمار في العقار مع وقف التنفيذ ومبانٍ بالانتظار حتى إشعار آخر، أو مشاريع ارتكاباتٍ إسمنتيّة وإسفلتيّة قادمة، بل ليس مثل هذا الفضاء في ثقافتنا المتأصّلة سوى فراغٍ وخواءٍ، وخلاء، لا حالة امتلاءٍ مكانيٍّ وجوديٍّ ووجدانيّ، أو تعبيراً عن عُمقِ تجذّرٍ وانتماء، بل ليس أكثر من مكانٍ للإزدراء بدل الاحتفاء، وللتبوّل بدل التجوّل، وللبُصاق والتحرّش والتخريب وممارسة السلوك الشعبويّ والعدوانيّ مع الغير، ومع أملاك الغير، وكلّ ما هو مشترك وعام ما يجعل من الفضائل والفضاءات مجرّد فضلات.

سنان حسن

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى