عهد التميمي: طفلة فلسطينية في زمن الاشتباك… وسؤال!
نصار إبراهيم
مهلا… لنذهب أعمق.. لكي ندرك أبعد مما نرى
لا أدري لماذا حين سمعت عن اعتقال الطفلة الفلسطينية عهد التميمي، حضرت في الوعي والعقل مباشرة صورة الشهيد إبراهيم أبو ثريا… فاختلط الوجهان، وجه عهد بجبروتها وسطوتها ووجه إبراهيم بعناده المستحيل.
هل ذلك لأنّ الحالتين قد ذهبتا إلى الحدّ الأقصى من التحدّي والمواجهة…!؟ ربما…
لقد عبرت عهد التميمي المسافة ما بين لحظة الولادة ولحظة الاشتباك دفعة واحدة، لهذا لم تكتشف ابنة الستة عشر ربيعاً طفولتها بعد… لم تعرفها… لقد ولدت فوجدت نفسها هكذا في زمن الاشتباك ودائرة الاشتباك… فراحت غريزياً تقاوم وتقاتل هناك وهنا… بيديها ووجهها، بقامتها وشعرها وأسنانها حيث تنعدم المسافة ما بين القاتل والمقاوم.
لقد فرضت عهد معادلاتها، فأسقطت علاقات القوة وداست عليها، حطمت وهم القوة وغباءها، لم ترتجف ولم تتردّد، كانت تستجمع نيران غضبها وتنحدر كعناة نحو ميادين الحرب الضروس… لم تنتبه إلى أنها ما زالت طفلة، كلّ ما في وعيها أنّ عليها أن تكون… وبهذا أجبرت قوة الاحتلال على التعامل معها كخطر وتحدّ شاسع ومباشر، فلم يجدوا أمامهم ما يغطي بشاعتهم، لقد أجبرتهم الطفلة عهد على الاشتباك المباشر، فلم ينتبهوا إلى رقة يديها وطولها وبراءة عينيها، لم ينتبهوا إلى أنها لم تكتمل ولم تأخذ تضاريس الأنثى بعد…. لم ينتبهوا إلى أنّ عهد قد أجبرتهم على الوقوف أمامها عراة من كلّ غطرسة وبأس… جرّدتهم من وعيهم… أجبرتهم على الانحناء… جعلتهم يصغرون ويصغرون… فحوّلتهم إلى أضحوكة…
ما حصل مع الأيام والسنوات أنّ عهد التميمي نشرت شعرها الأشقر الأجعد فإذا به يصبح بمساحة وطن، وفرضت ذاتها كقوة معادلة، أو ندّ لا يهاب، هنا… بالضبط هنا… انهارت منظومة القوة، فبدا الجنود أمامها مجرد أشقياء وأغبياء تافهين…
قد يقول البعض، ما كان يجب أن تترك عهد طفولتها، ما كان على أهلها أن يسمحوا لها، ما كان عليهم أن يتركوها… قد يقول البعض هذا وأكثر…
هذا البعض قد يعرف أو لا يعرف، لا فرق، أنّ معادلات الفلسطيني في زمن الاشتباك تفرض معايير أخرى للطفولة والحياة والأولويات… فنحن الفلسطينيون لم نختر ذلك ولم ولا نتمناه يوماً لأطفالنا، ولكن ما الذي يمكن عمله حين يحتلّ الاحتلال أبسط تجليات الطفولة، حين يغتال طفولتنا، يغتال أمومتنا، يغتال أبوّتنا، يغتال إنسانيتنا… ماذا… وماذا… وماذا…!
إلى أصحاب فلسفة حقوق الإنسان وحقوق الأطفال… إنكم دائماً تحرفون النقاش عن وجهته الأصيلة، دائما تشوّهون الأسئلة والمقاربات… ودائماً تحيلون إلى أيّ شيء باستثناء أن يكون الحقيقة.
فالسؤال الابتدائي هنا ليس لماذا الطفلة الفلسطينية عهد التميمي في دائرة الاشتباك…! بل من هو المسؤول سياسياً وأخلاقياً وإنسانياً وتاريخياً عن وجود الطفلة عهد أصلاً في دائرة الاشتباك!؟
ذلك لأنّ كلّ ما تفعله وتقوم به عهد من ردود فعل ما هو إلا ردّ فعل غريزي للدفاع والبقاء وفق ما يفرضه زمن الاشتباك… في مثل هذه الوضع لا يعود للعمر معنى… كما لا يعود لسؤال هل كان على الشهيد إبراهيم أبو ثريا أن يذهب إلى دائرة الاشتباك بلا ساقين أم لا!؟
لهذا تفقد مثل هذه الأسئلة معناها تماماً… ذلك لأنه من غير العادل والمقبول مقاربة ما هو غير منطقي بصورة منطقية…
هذا بالضبط ما حاول الشهيد غسان كنفاني أن يشرحه لنا، قبل أكثر من ستين عاماً، في قصته القصيرة «الصغير يذهب إلى المخيم»، حين يقول:
«كان ذلك زمن الحرب. الحرب؟ كلا، الاشتباك ذاته.. الإلتحام المتواصل بالعدو لأنه أثناء الحرب قد تهبّ نسمة سلام يلتقط فيها المقاتل أنفاسه. راحة. هدنة. إجازة تقهقر. أما في الاشتباك فإنه دائماً على بعد طلقة. أنت دائماً تمرّ بأعجوبة بين طلقتين، وهذا ما كان، كما قلت لك، زمن الاشتباك المستمرّ … كان ذلك زمن الاشتباك. أقول هذا لأنك لا تعرف: انّ العالم وقتئذ يقف على رأسه، لا أحد يطالبه بالفضيلة. سيبدو مضحكاً من يفعل… أن تعيش كيفما كان وبأية وسيلة هو انتصار مرموق للفضيلة. حسناً. حين يموت المرء تموت الفضيلة أيضاً. أليس كذلك؟ إذن دعنا نتفق بأنه في زمن الاشتباك يكون من مهمّتك أن تحقق الفضيلة الأولى، أيّ أن تحتفظ بنفسك حيّاً. وفيما عدا ذلك يأتي ثانياً. ولأنك في اشتباك مستمرّ فإنه لا يوجد ثانياً: أنت دائماً لا تنتهي من أولاً… … أنت تعرف أنّ طفل العشر سنوات زمن الاشتباك لا يستطيع أن يفهم الأمور إذا كان ثمة حاجة لفهمها كما يستطيع عجوز مثل جدّي. إن ذلك مثل أن تطلب مني وأنا أعبر بين طلقتين أن أنظف حذائي» كنفاني .
إذن… حكاية عهد التميمي، كما هي حكايات غيرها من ملايين الأطفال الفلسطينيين، هي هكذا بالضبط… لقد ولدوا فوجدوا أنفسهم في زمن الاشتباك.. وبالتالي لم يكن أمامهم من خيار سوى أن يعيشوا وفق شروط الاشتباك… ليس الحرب حتى، فالحرب لها تقاليدها وتوازناتها وأحكاها وشروطها وأوقاتها، ما نتحدث عنه هنا هو حالة اشتباكٍ لا ترحم، وهي حالة مستمرة على وفي مساحات الزمان والمكان كلها… إنها حالة تمتدّ على مدار عقود وأجيال وحياة، وهي حالة معادلتها جداً بسيطة وحاسمة: إما نكون أو لا نكون… وحين تكون معادلة الوجود والحياة بمثل هذه الضراوة والامتداد والاستمرار، لا يعود ممكناً مقاربة ردود الفعل معها وفيها بطريقة ساذجة أو منطقية.
هذه الحقيقة، أقصد حقيقة حياة الفلسطيني، في ظلّ شروط وقوانين زمن الاشتباك، سواء كان طفلاً أم يافعاً، شاباً أم مسناً، امرأة أم رجلاً، بقدمين أم بدونهما، هي ما يفسّر لنا معنى أن تشتبك طفلة فلسطينية جميلة ورقيقة كزهرة ياسمين اسمها عهد التميمي وبكلّ ما أوتيت من قوة مع قوة غاشمة مدجّجة بكلّ أنواع الموت.
وهي الحقيقة ذاتها التي تفسّر لنا معنى أن يندفع شاب فلسطيني فقد ساقيه اسمه إبراهيم أبو ثريا ليلتحم في مواجهة مستمرة مع قوة غاشمة وقاهرة مدجّجة بكلّ أدوات الموت… فيستشهد دون أن يرتبك…
حدث هذا ويحدث وسيحدث… لأنه في زمن الاشتباك الفلسطيني، لا يعود السؤال عن الطفولة أو أن يكون لك قدمان أو يدان سؤال له أيّ معنى…
ذلك لأنّ سؤالاً مثل هذا، يشبه أن تطلب من ذلك الفلسطيني العابر بين طلقتين أن يقف لينظف حذاءه.
ولكن… بعد كلّ هذا… وبعد أن تكون الفكرة قد وصلت بوضوح، يبقى هناك سؤال يستحق الوقوف بين طلقتين: متى وكيف سيرتقي الأداء السياسي الفلسطيني إلى مستوى عهد التميمي والشهيد إبراهيم ابو ثريا!؟