التسوية السّورية وفق صيغة جنيف على أرضيةٍ زلقة!
سومر صالح
شكّل القرار الدولي 2254 الانطلاقة الفعلية لمسار التسوية السياسية الراهن بدءاً من جنيف 3 بجولاته الثلاث، وتمّ تدعيم هذا القرار بآخر دوليّ وهو القرار 2268 الذي كرّس اتفاق وقف الأعمال القتالية 22/2/2016 ، والذي أنقذ الجولة الثالثة من جنيف من التعثر، ولإعطاء مزيد من القوة الدافعة للتفاوض أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين 14/3/2016 بسحب القسم الأكبر من القوات العسكرية المنتشرة في سورية منذ 30 أيلول 2015، ورغم ذلك لم تنتج الجولات السابقة لجولة «جنيف 8» الحالية أيّ شيء يذكر… واليوم مع جولة «جنيف 8» شيء من التاريخ جرى استحضاره فبيئة التسوية الراهنة في جولة «جنيف 8» يشابه جولة «جنيف ـ 3» وبنفس السياق تقريباً بدءاً من اتفاق بوتين/ ترامب الأول والثاني 11/11/2017 – 7/7/2017 المشابه لقوة الدفع التي أعطاها القرار 2254 ، انتقالاً إلى وجود نظام هدنة 30/12/2016 المعلن من موسكو والذي يشابه نظام وقف الأعمال القتالية 2016، وصولاً إلى قرار سحب القوات الروسية من سورية 11/12/2017 وهو القرار الثاني ضمن عام، فالأول أُقرّ في 6/1/2017 بعد دخول هدنة موسكو حيّز التنفيذ، الفارق ذو الدلالة بين جولتي «جنيف 3» و»جنيف 8» هو سياق أستانة للحلّ والذي يمنع النكوص في عملية التسوية إذا أخلّت الولايات المتحدة الأميركية بتعهّداتها والتزاماتها، هذا من ناحية الشكل، لذلك يمكن القول مقارنةً بجولة «جنيف 3» أنّ الجولة الراهنة من جنيف تقوم على أساسين الأول هو مخرجات أستانة للتسوية العسكرية والتي تعطي تفسيرات محدّدة للقرار 2254 تستند إلى ميزان الميدان السوريّ والذي يمنع جنوح المعارضات إلى تفسيرات انتقائية غير منطقية لهذا القرار المرتبك، والأساس الثاني هو إعلان جميع الأطراف الانتصار على الإرهاب بشكلٍ يثير الدهشة طبعاً… والسؤال الذي يمكن طرحه هنا، هل يصلح الأساسين السابقين كداعمات ثابتة لانطلاقة فعلية لمسار التسوية السياسية في جنيف؟ الجواب يكمن طبعاً في حجم الالتباسات الحاصلة في هذين الأساسين فكلما زادت مناعة وقوة هذين الأساسين يمكن القول إنّها تشكّل انطلاقةً فعليةً لبناء شكل التسوية السياسية في سورية، وكلما زادت التعقيدات والملابسات والثغرات في هذين الأساسين نستطيع الجزم بعدم قدرة هذين الأساسين على حمل بناء التسوية الثقيل والمثقل بالإشكاليات لمدةٍ طويلةٍ وهو ما سيعرّض العملية السياسية إلى نكوصٍ مستقبليّ.
بالنسبة إلى الأساس الأول وهو عملية أستانة التي انطلقت 23/1/2017 فهي مقسومة على ثلاث مرجعيات واتفاقيات بين اتفاق بوتين الأول والثاني حول منطقة جنوب غرب سورية، وتفاهماتٍ روسيةٍ مع القاهرة حول اتفاق الغوطة واتفاق المنطقة الوسطى، والمرجعية الثالثة وهيّ اتفاق إدلب مع تركيا ضمن ترويكا أستانة 15/9/2017 ، وهذا الإطار الفضفاض لمناطق تخفيف التصعيد يشكّل مصدر تهديد لهذه الاتفاقيات ومسار أستانة، هذا من ناحية الشكل، أمّا من ناحية المضمون فكثيرة هيّ الإشكاليات المرافقة لهذه المناطق والتي تهدّد صمود هذه التسويات وصلاحيتها لبناء شكل التسوية، فالخروقات الإسرائيلية المعادية على سورية، والتي تكثّفت بعد إعلان اتفاق هامبورغ وكان أخرها 2/12/2017 تضع المنطقة كلّها على حافة الحرب الشاملة، أمّا بالنسبة لإدلب فالموضوع لا يقلّ خطورةً عن منطقة جنوب سورية فتركيا خرجت شكلاً ومضموناً على اتفاق إدلب وتحوّلت إلى قوة احتلالٍ فعليةٍ في إدلب فاتفاق أستانة نصّ على دخول شرطة عسكرية بمهمة مراقبة وليس آليات عسكرية تابعة للجيش التركي لإنشاء نقاطٍ عسكرية، والهدف الواضح لأستانة هو قتال تنظيم النصرة الإرهابيّ في إدلب بينما تركيا أقامت نقاطها العسكرية بتنسيقٍ علنيّ مع التنظيم الإرهابي، والأخطر محاولة تركيا الدؤوبة لدمج النصرة مع تنظيماتٍ أخرى لإخراجها من لوائح الإرهاب الدولي وتتجه الأمور لتشكيل غرفة عملياتٍ موحدةٍ تضمّ كلّ الفصائل في حلب وإدلب، برعاية تنظيم أحرار الشام الإرهابي… بينما منطقة تخفيف التصعيد في الغوطة فهي بحكم المنتهية فعلياً بعد الهجوم الذي قامت به تنظيمات النصرة وفيلق الرحمن وأحرار الشام 14/11/2017 على إدارة المركبات في حرستا والذي انتهى بفشل الهجوم، لذلك يمكن القول إنّ سياق أستانة قد نجح في تحويل الجهد العسكري السوري والروسي والقوات الرديفة باتجاه هزيمة «داعش» الكليّة في سورية، ولكنّه بواقعه الراهن ما زال غير قادر على إعطاء الأرضية الصلبة لبدء التسوية السياسية في جنيف فتركيا دولة احتلال والولايات المتحدة كذلك الأمر، وقبل البتّ في هذه المسألة الملحّة فلا يمكن التأسيس على سياق أستانة.
أمّا بالنسبة للأساس الثانيّ للتسوية الراهنة وهو هزيمة الإرهاب في سورية، فالأمر ينطوي على مغالطاتٍ كبيرةٍ دولياً… صحيح أنّ داعش قد هُزم وانتهى ولكن الإرهاب ليس داعش فقط، فالنصرة ما زالت موجودة وتنظيم القاعدة وعبر قائده الظواهري 27/11/2017 يهدّد ويلمّح بقرب قيام تنظيم قاعدة جديد في سورية، وما جرى مؤخراً في إدلب يشير إلى إمكانية اندماج بقايا داعش المهزومة مع هذا التنظيم الإرهابي الوليد… مع إعادة التأكيد مجدّداً على المحاولات التركية لدمج النصرة مع التنظيمات الإسلاموية الأخرى ومحاولة سورنة جبهة النصرة ليجري استثمارها لاحقاً وفق البرغماتية التركية، وهو أمرٌ لن يمرّ، ودمشق اختارت الردّ مباشرةً والعمليات العسكرية في شمال حماة وجنوب إدلب الجارية الآن تعني أنّ ضرب جبهة النصرة والقضاء عليها خط أحمر سوري بغضّ النظر عن حساسيات سياق أستانة.
إذن… الأساسان السابقان على أهمّيتهما لا يمكن البناء عليهما لانطلاقة فعلية لتسوية سياسية في جنيف، يضاف ذلك إلى إعلان «الرياض 2» 23/11/2017 ، الذي أتى خارج المعطيات السابقة وحتى خارج الواقع ليشير هذا الإعلان إلى عدم توفر إرادة إقليمية لإنجاز التسوية السورية، فحجم الاشتباك الإقليمي كبير ومعقد وعلى أكثر من ميدان وجبهة، لذلك لنجاح جنيف متطلبات عدّة في مقدّمها: أوّلها إبعاد تلك المفاوضات عن تجاذبات المنطقة، وهو أمرٌ لا يبدو متاحاً ونحن نرى تشكّل تحالفات جديدة ومحاور جديدة في الشرق الأوسط غير الأنماط التقليدية المعروفة، والأمر الثاني خروج القوات المحتلة الغير شرعية من سورية، فلا يمكن البدء بتسوية سياسية وطنية للأزمة والدولة تتعرّض لعملية احتلال لأجزاء من الوطن بحجة دعم طرف في هذه المفاوضات، والأمر الثالث الانتقال من تخفيف التصعيد إلى التسوية السياسية على افتراض أنها ستحوّل تلك المناطق إلى استقرار دائم، باعتقاديّ هي فرضية غير واقعية ومعكوسة، فالأكثر واقعية هو الاستقرار الدائم كشرط لتسويةٍ سياسيةٍ وليس العكس..
هذه المعطيات لا تفيد بالكثير من التفاؤل في إنجاز أيّ خرقٍ سياسيّ في جنيف، ودي ميستورا الذي خرج عن مهمة «التيسير الحيادي» بدأ بدق مسمارٍ آخر في نعش هذا المسار، ليبقى تعويل السوريين على أمرين أساسيين… الأوّل هو استمرار هزيمة الإرهاب بشقيه القاعدي والإخواني بعد هزيمة السّلفية الداعشية، والأمر الثاني هو انتعاش الاقتصاد السوريّ ودوران عجلة الإنتاج الصناعيّ والنفطيّ لتحسين واقع المعيشة للمواطن السوريّ، بانتظار القادم من الأيام لعلّها تحمل في أجندة مؤتمر سوتشي قوةً دافعةً لإنجاز تسويةٍ سياسيةٍ للأزمة لا تبدو متوفرة حتى الآن في جنيف.
somersaleh gmail.com