«قواعد العشق الأربعون» وعبثيّة الإقناع
عبد المجيد محمد خلف
فضاءات حالمة ونهايات متوقعة فضاءات جميلة، وأحلام تحاول الكاتبة أن تدخلنا فيها، في هذه الرواية، وما هي إلا محاولة من أجل إسباغ هذا اللون والطابع على النص، ليكون أكثر قبولاً لدى القارئ ـ الحالم ـ ليبحث عن شخصيته الضائعة، فهو مغترب عن روحه وحياته، ويبحث في ثنايا نص كهذا عنها لعله يجدها فتهدأ نفسه قليلاً بعد تيه، وغياب عن ذاكرته.
لا تعتمد الكاتبة على عنصر الإثارة والتشويق، اللذين خلت منهما الرواية، وجاءت واضحة المعالم، ذات نتائج متوقعة، ونهاية بسيطة عارية منذ البداية، ما أدى إلى سقوطها في معترك السهولة والبساطة، والبعد عن الإثارة، وجذب القارئ، ليعيش مع النص لحظات جميلة حالمة، باحثاً عن ذاته في ثنايا نصّ فاقد لقوته وأسلوبه، وغير قادر على الإقناع والتأثير، وإجبار القارئ على متابعة القراءة حتى النهاية، فلم تستطع بلوغ أثرها العميق، كما رُوِّج لها، وأذيع عنها، وما هي إلا حالة بسيطة، ومعلومات من غير المتوقع أن يقف أحد عندها لأنها باهتة جامدة، وواضحة حتى، بالنسبة لأي شخص، خاصةً ابن الشرق، أو أي إنسان مطّلع، ولو بشكل بسيط على أي متصوّف، أو زاهد، في كافة المجتمعات، فسيَرُهم الحياتية واحدة، وتصرفاتهم أغلبها تدور حول موضوع محدد، وأشعارهم انعكاس وتجليات عبادتهم وممارساتهم اليومية الصوفية والزهدية، في سبيل التوصل إلى الله، ومعرفة مدى قدرته، وسبر أغوار عظمته، وفعله في الوجود.
فلم تخلق الكاتبة نصاً جديداً، ولم تأتِ حتى بشيء جديد، لافت للنظر، ويستحق التوقف عنده وقراءته، والاستفادة منه في موضوع الدين والتصوف فابن الرومي وشمس التبريزي ليسا غائبين عن التاريخ الشرقي والإسلامي، وكذلك الحلاج، البسطامي، السهروردي، سعدي وحافظ الشيرازيين، ابن عربي والملا الجزري حتى، فكلهم سلكوا طريقاً واحداً، وإن اختلفت آراؤهم في مسلكهم هذا، وكانت تفاصيل الحياة التي ذكرت عنهم أكثر عمقاً وقوةً مما وردت في رواية «قواعد العشق الأربعون»، أي أن ما ذكرته الكاتبة في هذه الرواية كان شيئاً بسيطاً بالنسبة لموضوع التصوف، المعروف عنه في التاريخ الإسلامي، وعجزت الكاتبة عن تقديم تلك الصورة العميقة، والحالة الغامضة، واللحظات والظروف الصعبة التي مرّ بها المتصوفون حتى وصلوا إلى ما هم عليه.
وكان من المفترض أن تكون مطلعةً بشكل أكبر وأدق على موضوع التصوف، وما تم ربطه في هذه الرواية بين شخصيتي إيلا وعزيز زاهار ، وبين الرومي وشمس التبريزي ، غير مقنع، وغير مُجدٍ حتى فشمس مات بسبب حالته الصوفية، أي كانت تصرفاته، ومواقفه الصوفية سبباً لذلك. أما اختلاق قصة إصابة عزيز زاهار بمرض السرطان من أجل الجمع بينهما، وتشبيههما ببعضهما، أي عزيز زاهار وشمس التبريزي، فهو واهن نوعاً ما، وغير مقنع، فمن أجل أن تقنع القارئ برابط وخيط يجمعهما معاً لم تجد إلا ابتكار مرض السرطان كحالةٍ طارئةٍ لدى عزيز، من أجل أن تقتله، أما شمس، فسبب موته معروف في التاريخ.
لدى قراءة الرواية يكتشف القارئ مواقف وأحداث متشابهة، ومتكررة بشكل كبير، بل معادة في الكثير منها، فلا تتوقف الأحاديث والقصص عن إعادة نفسها بصورة، أو بأخرى بشكل بدائي، لا قوة فيه، ولا جدة، فحديث ـ كيميا، وحديث بيبرس، وحديث الرومي، وحديث شمس نفسه، وحديث سلطان ولد ـ مكرر، وأغلب المشاهد في الرواية هي مشاهد مكشوفة، وهي عبارة عن تمجيد، ورفع لشأن شمس، وقيمته من أجل رسم هالة أرادت الكاتبة أن تضعها له، وكل ذلك لهدف أول وأخير لإقناع القارئ بصورة مبالغة ومفتعلة بتصرفات شمس، وأفعاله حتى، ولو كانت تلك أفعاله وكراماته، كما أطلقت عليها في الطرق الصوفية، لكن طريقة تقديمها كانت ضعيفة، وغير مقنعة، فلا نجد سوى شخصيات تشير في أي موقف، من هنا وهناك، في أي فصل إلى شمس، لتظهر في النهاية لنا النتيجة التي آلت إليها الرواية، بعيداً عن حبكة قوية، واعتماداً على التداعي، وسرد أبطال الرواية لحياة شمس، وقناعاته، وأقواله وتصرفاته، وهو ما يذكرنا بقصص «ألف ليلة وليلة»، وحكايات شهرزاد، فكأن الرواية هي سيرة واضحة، غير معتمدة على أسلوب سردي متين، ولا حبكة مترابطة، ما يدفع بالقارئ الذي يريد بالفعل الاطلاع على موضوع التصوف قراءته من ينابيعه الأصيلة، وأشعار وكتابات المتصوفين أنفسهم، وسير حياتهم، لا الاقتصار على هذه الرواية، التي لم تقدم سوى معارف بسيطة، وجاءت في قالب رومنسي مفرط، وقصة حب غير محكمة، تنقصها الإثارة والتشويق.
اعتمدت الكاتبة بشكل رئيس على حالة الحب، وما يعترى العشاق من مشاعر، من أجل إسباغ طابع الإقناع على الرواية، ودفعت بالرواية إلى حالة من الضعف، والتشتت فقصة الحب الرئيسة التي جمعت بين إيلا المتزوجة، أم لثلاثة أطفال، وعزيز زاهار، حالة لا تتوافق مبدئياً مع منطق العقل، إلا أنها اعتمدت على إضفاء العاطفة عليها لتكون أكثر منطقية، وإقناعاً، وعلى الرغم من أنها بقيت غير مقنعة، خاصةً بالنسبة للشريحة الاجتماعية التي كتبت لها، وعنها، فإذا كانت مقدمة الرواية تشير إلى أن الرواية لاقت رواجاً كبيراً، واستحساناً في البلاد الإسلامية، خاصة تركيا، فهي توقع نفسها بنفسها في معضلة كبيرة فلا الدين يسمح بذلك، ولا طقوس الزواج المقدسة، ولا الروابط الأسرية.
وهناك فرق كبير إذن بين أن تطرح مفهوما كهذا في مجتمع شرقي إسلامي، وفي مجتمع غربي أوروبي، فالرسالة إذن لا بد أن تكون واضحة، وفي الرواية نجد افتقاد هذا العنصر أي الوجهة الخطابية، فما قيل عنها في مجتمعنا، وما تم تداوله بالنسبة لها، ترفضها الفئة المتداولة نفسها، وكأننا بأبناء هذا المجتمع يخدعون أنفسهم، حسب رؤيتهم لها، فهم استحسنوا الرواية من جهة، ووقفوا ضمنياً ضد علاقة إيلا وعزيز زاهار من جهة أخرى، لأنها علاقة حب غير مقبولة، وتشوبها عيوب المجتمع الشرقي، وتسيء إلى سمعة الشخص، وتشوهها، فـ لاوعيهم المكبوت يقبلها، وأناهم، وضميرهم الجمعي يرفضها، ولم يكن هناك من مخرج لهذه المعضلة إلا بوضع قصة الحب هذه ضمن إطار رومنسي، وربطها بقصة الرومي والتبريزي لتصبح أكثر عقلانية، وتلاقي القبول والاستحسان، لكن ذلك الربط جاء هشاً، فاقداً قوته، وعناصره الداعمة له.
بمناسبة التطرق إلى موضوع الإعلام والنص، لا يمكن إضافة شيء من هذا القبيل، فلقد قيل الكثير عن وسائل الإعلام، سلباً وإيجاباً، وكتب أيضاً، وما زال الحديث دائراً، لدرجة أنه تم تأليف كتب عن النقد نفسه، تحت تسمية نقد النقد ، وهذه الغاية واضحة، فعندما لا يقوم النقد بدوره بشكل جيد، يتعرض أيضاً للنقد، وفي معرض الإشارة إلى رواية «قواعد العشق الأربعون» والإعلام، نجد هالة كبيرة، وقيمة مبالغاً فيها، تمت إضافتهما من قبل الإعلام عليها إذ تم تداول الرواية بمئات الآلاف من النسخ، إن لم نقل بالملايين، وهذا بالطبع ما يخلق انطباعاً بجودة النص، أو ضعفه، فقد يقابل نصٌّ بتلقٍ ضعيف، بدون أن يخفض من قيمته، ومكانته التي يستحقها، وقد يقابل بتلق كبير، وهذا أيضاً لا يرفع من مستواه، وجودته، ولم يقم الإعلام إلا بتقديس هذه الرواية، والإشارة إليها بشكل مبالغ فيه حتى تولد الإحساس والفضول القارئ بضرورة قراءتها، وبأنه ليس قارئاً جيداً إن لم يفعل ذلك، ويتوجب عليه أن يمدحها في كل مكان وحادثة، بدون أن تخلق لديه الجرأة على التحدّث عنها بأي شيء يعتبر سلباً لأنه سيكون معرّضاً للسخرية والتهكم من قبل القراء الآخرين، فلا يحق له القيام بمثل هذا الفعل، والإشارة إلى رواية كهذه بالنقد، فهي رائعة ومشوقة، ولا بد أن يسوّق لها أيضاً، مع أنه قد يكون متأكداً من أنه غير راضٍ عنها، ولكن، وبما أن التيار يجري هكذا، فليمضِ هو أيضاً معه، على الرغم من عدم اقتناعه بها كليا.
فما تم طرحه في هذه الرواية كمضمون، فكرة، حوادث وأسلوب أمر عادي جداً، ولا يدفع على ذلك التهويل المبالغ، هي رواية ككل الروايات التي ذكرت عن المتصوفين، وأقلها شأناً، بالنسبة للكتب والروايات التي تناولت حياة المتصوفين في التاريخ الإسلامي، وأقلها تعبيراً عن مسلكهم، والحوادث التي جرت معهم، فقصة الحلاج والسهروردي أعمق من ذلك بكثير كطريقة وأسلوب تعبير، وجاء السرد في هذه الرواية عاطفياً، ممزوجاً بطاقات تعبيرية رومنسية، ليتوافق وذوق الفئة الكبيرة الموجهة إليه، وتدغدغ مشاعره ليس إلا، مع أنها مبنية على حالة عدم التوافق بينها، وبين الدين والأخلاق، والعادات والتقاليد الشرقية، على الرغم من عدم حدوث شيء بين إيلا وعزيز، وبقاء حبهما نقياً طاهراً، إلا أنها امرأة متزوجة، لديها ثلاثة أطفال، وهذا بحد ذاته كاف لفشل الرواية في إقناع القارئ، والكشف عن أنها لا تخاطب عقله الواعي، بل خاطبت عاطفته فقط، التي تقبلتها في غفلة من الانفلات من قيود العقل وضوابطه، وهذا ما سعت إليه، أي ترسيخ أهمية قيمة الحب في الحياة، إن جاء في أي وقت، ومهما كانت الظروف، فهو يبيح كل التصرفات، حتى ترك الزوج والأولاد من أجل السعي وراءه، من خلال التأكيد على بساطة إيلا وعفويتها، ومعرفتها بخيانة زوجها لها لتبرير موقفها في البحث عن الحب، وخوض تجربته مع عزيز ـ تحت مسمى الحب الطاهر النقي ـ الذي يلاقى بالطبع الاستهجان من قبل أي مجتمع كان، خاصة الشرقي والإسلامي، لكنها أضفت عليه ذلك الطابع، وتلك المسحة المقدسة لتكون أكثر قبولاً وتناغماً مع رغبات أبناء المجتمع الدفينة، الباحثة عن الحب، والراغبة في الانفكاك من قيود المجتمع، مع أنه فرضها على نفسه، والتزم هو بها، وينظر بعين الشك والارتياب لكل من يخرج عنها.
روائيّ سوريّ