«طريق الحرير»… التكامل بديلاً من الهيمنة

داليدا المولى

يشكل «طريق الحرير»، وإنْ اصطلح على تسميته حديثاً «عُبور» أو «الحزام والطريق»، إلى جانب أهمية شبكة المواصلات المنطلقة من الصين مروراً بالمشرق إلى العالم، أرضية أساسية لإعادة إبراز دور القوميات وتكامل اقتصادياتها بوجه السياسات الليبرالية الغربية التي أفقدت الأمم خصوصياتها تحت وطأة عولمة الثقافة قبل الإقتصاد. ويساعد هذا التوجه الذاكرة الاقتصادية والحياتية التي خلفّها «طريق الحرير» في العديد من البلدان على طول الخط المرسوم بالذهب والتجارة وتقاطع المصالح، حيث خلق رابطة خفية بين العديد من المناطق والبلد المنشأ للحرير.

رسمت الطريق المُعبَّدة بامتدادات العملاق الصيني التاريخية، قنوات عظيمة للتبادلات على أنواعها، ومهّدت لنشوء اقتصاديات ضخمة وعلاقات تجارية وثقافية وفكرية وإنسانية تخطّت الطريق إلى قلب المجتمعات التي طرقت القوافل المُحمَّلة بالثقافة والبضاعة بنيتها. الارتباط التجاري جعل من البلدان مجالاً حيوياً وتبادلياً لصناعاتها ومسرحاً لتقارب الثقافات وتصدير واستيراد نظم اجتماعية اختزنتها الجماعة وقاربت بين الشعوب الشرقية في الصين والهند وإيران وسورية الطبيعية وشمال أفريقيا، مستندة إلى الخلفية الثقافية المتماثلة في الشرق وقوامها التحرُّر ومناهضة المستعمر بوجه نظرة الغرب الاستعمارية إلى مجموع الدول الشرقية. لا يمكن والحال هذه الفصل بين أهمية العامل الاقتصادي والبعد السياسي لهذا الحلف الناشئ المرتبط مصلحياً في خط تجاري وصناعي تكاملي يميزه عن الشريك الغربي الناهب للموارد الطبيعية لدول الشرق من سورية إلى شرق آسيا وتالياً الوقوف في وجه العنجهية الأوروبية ـ الأميركية التي سيطرت على هذه البلدان لمدة طويلة رافضة أن يغدو مستعمرو الأمس قادة المستقبل.

الارتباط الثقافي التاريخي

يتفق المؤرخون على أنّ ما اصطلح على تسميته «طريق الحرير» يرجع بالزمن إلى حوالي 3000 عام. ومهما كان تاريخ نشوء هذه التجارة فإنها تحتِّم الدخول إلى عمق عظمة الحضارات الشرقية، لمعرفة حجم الانفتاح الثقافي الممتد من تلك الحقبة حتى اليوم. ويمكن وصف الطريق التاريخية على أنها شبكة مواصلات وعدد من السبل البرية والبحرية في وقت لاحق ربطت بين شرق آسيا وسورية الطبيعية بهدف تجارة الحرير الصيني بشكل أساسي، على امتداد طريق طوله حوالي 12 ألف كيلومتر، حيث يمتد من المراكز التجارية في شمال الصين وينقسم إلى فرعين: الفرع الشمالي يمر عبر شرق أوروبا والبحر الأسود، وشبه جزيرة القرم وصولاً إلى البندقية، والفرع الجنوبي يمر بإيران وبغداد فحلب، حيث كانت تُفرَّغ البضائع لكي تُصنَّع في المدينة، أو يُعاد تصديرها عبر مرفأ حلب يومذاك، الاسكندرون لتشق طريقها إلى أوروبا وشمال أفريقيا، وهذا يدلّ على عمق العلاقة بين شرق آسيا وسورية الطبيعية والرابطة العميقة التي تحكمها.

تركة الطرق الحريرية الأهم تكمن في ما خلفته بين الشعوب من تبادل ثقافي ووضع أسُس التبادلات التجارية الخارجية. فكان لزاماً على التجار الدخول إلى عدد لا يحصى من المتحدات حيث كانت تعقد فيها، إلى جانب الاتفاقات، مفاوضات تطال الثقافات إذ عليهم التعرف على عادات أهل المناطق التي ينزلونها وتعريفهم بما يحملوه لإمكانية عقد المبادلات التجارية واستمراريتها. فكانت المفاوضات الثقافية عاملاً أساسياً في إتمام الجانب المادي ما حتّم انتقال المعارف والمنظومات القيمية والفنية والأدبية، فضلاً عن الحرف والأدوات التقنية المستخدمة الأمر الذي شجّع على تعلم لغات مختلفة واكتساب معارف ثقافية، لعلّ أبرزها انتقال صناعة الورق وتطور الطباعة. وقد ساعدت القيم الثقافية ـ الاجتماعية المتقاربة في تعزيز علاقات الشعوب خالقة صلة وصل مناقبية بين دول الشرق التاريخية وأدت إلى «التوسّع السلمي» للاقتصاد الصيني حينها.

إنّ ما تسعى إليه الصين حالياً بطرحها مجدّداً مشروع «طريق الحرير» بصيغته الحديثة، هو نمو الاقتصاد بلا نزاعات، ضمن مبدأ التكامل مع الدول على طول مبادرة الحرير، تُضاف إلى ذلك عامل المظلومية التاريخية للحضارة الصينية والحضارات المشرقية عموماً خلال الحقبة الاستعمارية والإحساس الدائم لدى شعوبها بأنها لم تُنصَف في السياق الإنساني وهذا المشروع قد يشكل خطوة لإعادة المسار التاريخي إلى الطريق الصحيح.

تكامُل الشرق وحتمية التفوق

يقدم مشروع البنية التحتية الصيني، المتفوق من ناحيتي الحجم والنطاق، فرصاً استثمارية تقارب تريليون دولار، ويطال دولاً يقطنها 60 في المئة من سكان العالم وتشكل ثلث الناتج العالمي الإجمالي، وذلك بحسب إحصاءات رسمية. يتزامن ذلك كله مع تراجع القيادة العالمية الغربية المُتصدِّعة. هذه المبادرة الاقتصادية الضخمة هي فرصة للشرق لإعادة اعتباره عالمياً وللتأكيد على محورية القومية والهوية في وجه المشروع الغربي الهادف إلى تجريد الشرق من تاريخه، إن كان في الصين أم في الهلال الخصيب، وما بينهما من امتداد حضاري وصولاً إلى شمال أفريقيا وشرق أوروبا. وبطبيعة الحال لا تقتصر هذه المبادرة على عالم العمل والتجارة، إنما هي بالتأكيد تخدم أهداف بكين بالتوسُّع السياسي والإيديولوجي على أساس الصداقة بين الثقافات المنتشرة لا الهيمنة الليبرالية الغير مدركة لبنية المجتمعات والتي تحاول حالياً تفتيتها عبر أطنان من الجمعيات الراعية لأحوال الجماعات والشيع من دون وجود استهدافات قومية واضحة ما يساهم في تجهيل هوياتي متنامٍ قد يكون «طريق الحرير» مساحة للحدّ منه عبر بناء اقتصاديات الدول، ما يسمَح لها بالعمل على تحسين أوضاع مواطنيها وبناء مجتمعات مدنية وقانونية بعيداً من التدخُّلات الغربية العبثية في المجتمعات وسورية والعراق أبرز أمثلتها الحديثة. وهنا نقول إذا أرادَ صُنّاع القرار في العالم الردّ على الطموحات الصينية والشرقية عموماً، وتحديداً في غرب أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، فعليهم البحث في الأسباب التي وضعت الغرب في هذا الوضع السيىء وحتّمت نشوء أحلاف مشرقية محورية مبنية على البعد القومي من الصين إلى سورية في وجه تفاقم الإشكاليات الحقوقية مع عولمة الغرب وتمسُّكه بتفوق وهمي لا أساس له.

وعليه يدعم التوجُّه الصيني الحديث العديد من الإمكانيات التي تمكّن الاقتصاديات المتعاملة معها من دون التدخل المباشر في شؤونها، فهي بخلاف سياسة «صندوق النقد الدولي» لا تفرض شروطاً تعجيزية على الدول وترهق اقتصادياتها المحلية بموجبات الديون والتوجُّهات الغربية للسوق الحرة. فالمشروع الاقتصادي الصيني الحديث يتبنى مبدأ عدم التدخل في أنظمة الدول، وبمقدور الأخيرة عقد تبادلات كبيرة مع الشركات الصينية المُتمتِّعة بالمرونة اللازمة لتحقيق أرباحٍ مادية في مسعى لنشوء منظمة نفوذ استراتيجية على طريق التفوُّق.

المشرق الموحَّد محور «الطريق»

«طريق الحرير» في نسخة القرن الحادي والعشرين وجغرافية يعتبر مشروع بكين الأساس للمرحلة المقبلة، ومحاولة لاستعادة الدور التاريخي قبل نشوء الهيمنة الأوروبية على العالم، وتوجّه جدّي لخلق نموذج جديد للتعاون الإقليمي على قياس الشرق لا يشمل الولايات المتحدة الأميركية وصناديقها، في سياق نشوء عالم تعدُّدية الأقطاب بدءاً من الاقتصاد وصولاً إلى السياسة وبناء نظام دولي جديد متعدِّد الثقافات والتوجُّهات والقوى قد يعطي للشعوب الحقّ في تقرير مصيرها وحماية مستقبلها بوجه قانون حماية الفرد المسيطر على أداء المنظومة الحقوقية العالمية.

لا شك أنّ سورية الطبيعية ليست بمنأى عن المشروع الصيني بل هي في صلبه، ولعلّ الحرب التي خرجت منها دمشق منتصرة شكلت الباب الأوسع للكشف عن تطلعات شرق جديد، منتصر وقادر ومدرك لوجهته ولأهمية التكامل الاقتصادي والسياسي لإمكانية المواجهة وتحقيق استقلال حقيقي. وفي هذا الإطار، لا يغدو غريباً الموقف الصيني الواضح من معركة سورية بوجه الإرهاب ويمكن عند هذه النقطة فهم «الفيتو» الصيني الحازم بوجه التدخلات الأميركية في سورية، والذي أبرز فشل السياسات الغربية وانقلابها ضدها، ولعلّ مظهرها الأهم سيبدأ مع خط الغاز الممتد من إيران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق، والذي قد يمهِّد لطريق توحّد مشرقيّ بات مطلوباً، لا سيما أنّ معركة بغداد ودمشق وبيروت بوجه الإرهاب أثبتت، بما لا يقبل الشك، وحدة هذه الأرض المصيرية والثقافية والتاريخية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى