عندما تُخرس مصر كلّ الألسنة!

د. محمد سيد أحمد

يثير موقف مصر الرسمية دائماً العديد من ردود الأفعال، في ما يتعلق بالمواقف التي تتخذها من القضايا والأزمات العربية، فدائماً تكون التوقعات أعلى بكثير من المواقف المتخذة، ودائماً تأتي ردود الأفعال على المستوى الشعبي العربي مفتقدة للموضوعية، وعندما نحاول توضيح الأمر بأنّ المواقف الرسمية تتخذ وفقاً لمعطيات تختلف تماماً عن تقديرات المواطن العادي، نجد مَن يرفض حديثنا ويحاول اتهامنا بأننا ندافع عن الحكومات، رغم مواقفها المتخاذلة.

وفي هذا الإطار لا بدّ من تأكيد أنّ هناك حسابات سياسية معقّدة يتمّ وضعها في الحسبان قبل اتخاذ القرارات، وعندما تتخذ تكون مبنية على مجموعة من المعلومات التي ليس بالضرورة أن تكون معلومة للرأي العام. فالخفي في السياسة دائماً يكون أكبر بكثير من المعلوم. وفي هذا الإطار عانينا كثيراً خلال السنوات الأخيرة الماضية من محاولة توضيح موقف مصر الرسمي من القضايا والأزمات العربية، خاصة القضية السورية ثم اليمنية وأخيراً اللبنانية والفلسطينية.

فقد كان موقف مصر من الأزمة السورية موضع انتقاد وتهجّم. وقيل إنّ مصر تخلت عن سورية منذ بدء الحرب الكونية عليها، إلا أنّ الموقف الحقيقي بعد هذه السنوات السبع أكد أنّ مصر الرسمية كانت على علاقة وطيدة وتنسيق كامل مع القيادة والحكومة السورية طوال الوقت، وحين جاء الوقت المناسب أعلنت مصر أنها ضدّ تقسيم سورية، وضدّ أيّ تدخل عسكري في سورية، وداعمة للجيش السوري في حربه مع الجماعات الإرهابية، وأنّ مصير القيادة السورية لا يحدّده غير السوريين، وأنّ مصر مع الحلّ السياسي للأزمة السورية ومستعدّة أن تكون شريكة في الحلّ، فسورية هي الامتداد الطبيعي للأمن القومي المصري والعربي.

أما بالنسبة للأزمة اليمنية والعدوان الفاجر على الشعب اليمني والذي يستمرّ منذ ثلاث سنوات كاملة، وكان الرأي العام اليمني يتّهم مصر بالمشاركة في العدوان عليها، فقد أثبتت الأيام أنّ مصر لم تشارك في أيّ اعتداء على الشعب اليمني، وأنها مع إيجاد حلّ سلمي للأزمة اليمنية، فباب المندب أحد أهمّ بوابات الأمن القومي المصري، ومن مصلحة مصر عودة الاستقرار لليمن الشقيق كجزء من الحفاظ على الأمن القومي المصري والعربي.

وفي ما يتعلّق بالأزمة اللبنانية الأخيرة المتعلقة برئيس الحكومة سعد الحريري، ومحاولات نزع سلاح حزب الله واعتباره تنظيماً إرهابياً ، حاول الرأي العام اللبناني إلصاق تهمة أنّ مصر متوافقة مع الموقف السعودي في هذا الشأن، لكن تحركات مصر الرسمية جاءت مخيّبة لآمال مَن اتهمها بذلك، حيث تحركت مصر من أجل حلّ الأزمة واستقبلت الحريري قبل عودته إلى لبنان وتراجعه عن استقالته، وأعلنت مصر الرسمية رفضها اتخاذ أيّ إجراء ضدّ حزب الله، ورفضت وصفه بالإرهاب، ذلك لأنها تعلم أنّ سلاح المقاومة جزء أصيل من أمننا القومي المصري والعربي في مواجهة العدو الصهيوني.

وأخيراً جاءت أزمة القدس وتعالت الأصوات المتهمة لمصر الرسمية في طول وعرض العالم العربي وليس في فلسطين فقط بأنها قد تخلّت عن القضية الفلسطينية، لكن جاء الموقف الرسمي المصري ليخرس كلّ الألسنة حيث تقدّمت مصر وقبل خروجها بأيام من العضوية المؤقتة لمجلس الأمن في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2017 بمشروع لإدانة قرار ترامب بنقل سفارة بلاده الى القدس واعتبارها عاصمة للعدو الصهيوني، وكانت النتيجة أنّ كلّ الأعضاء الدائمين وغير الدائمين صوّتوا 14 عضواً لصالح المشروع المصري باستثناء الفيتو الأميركي، وهو ما استدعى الجمعية العامة للأمم المتحدة للتصويت ضدّ القرار الأميركي والذي جاء بـ 128 صوتاً ضدّ أميركا. هذا إلى جانب المحاولات المصرية المستمرة للمّ الشمل الفلسطيني، حتى يمكننا مواجهة العدو الصهيوني الذي يشكل خطراً داهماً على الأمن القومي المصري والعربي.

هذه هي المواقف المصرية الحقيقية من القضايا والأزمات العربية، وبالطبع قد لا تُعجب هذه المواقف الرأي العام العربي، الذي ينتظر من مصر الرسمية مواقف أكثر حزماً ووضوحاً كما كانت مواقفها في الخمسينيات والستينيات. وهذا حقه، لكن لا بدّ أن نكون أكثر واقعية وموضوعية فقد جرت في النهر مياه كثيرة، ولا بدّ من تأكيد أنّ حسابات السياسة تختلف عن حسابات الرأي العام الذي لا يمتلك كلّ المعلومات حول القضايا والأزمات المختلفة المثارة على الساحة الإقليمية، لكن النتائج النهائية التي تتخذها مصر دائماً تأتي لتخرس كلّ الألسنة. اللهم بلغت اللهم فاشهد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى