المخرج عفيف حيدر يسير «درب حلب» بعد سنة على تحريرها من الإرهاب
عبير حمدان
يكفي أن نقرأ تاريخ المدن القديمة كي ندرك أنّ حلب المدينة السورية، هي مركز الاقتصاد والصناعة والتجارة عبر تاريخها الموغل في القِدم. حيث ورد اسمها في الرُقم المكتشفة من مواقع عدّة، منها ماري وإيبلا وغير حضاراتٍ قديمة، ويؤكد البحّاثة الآثريون أنّ الحثّيين والميتانيين والفراعنة قد تسابقوا إلى احتلالها لما تتمتع به من موقع استراتيجي وتجاري هام.
ولأنّ التاريخ يعيد نفسه، سعى الإرهاب ومموّلوه إلى ضرب مقوّمات هذه المدينة بعد سنة من بداية الحرب الكونيّة على سورية.
مَن يعرف حلب القديمة قبل سيطرة المجموعات الإرهابية على جزء كبير من أحيائها، من الصعب عليه أن يتقبّل ما توثّقه العين وعدسة الكاميرا من دمار هشّم ملامح المكان، وحفر عميقاً في النفوس. لكن إرادة الصمود تبقى الأقوى. ولأنّ الإعلام مسؤولية، كان لا بدّ من توثيق الواقع وتداعيات ما عاشه أهالي حلب على مختلف الأصعدة الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية.
من هذا المنطلق، تسلّح المخرج عفيف حيدر بمعدّاته، وهو الذي يترجم الحدث وما يحيط به عبر عدسة الكاميرا وبرؤية سينمائية كما عهدناه في أكثر من عمل توثيقيّ، لقناعته بأنّ الصورة تحثّ المتلقّي وتحفّزه ليبحث بين تفاصيلها عن الكثير من الكلام الممكن.
«درب حلب»، عنوان السلسلة التي جهد حيدر كي ينقلها ضمن إطار بعيد عن السرد التقليديّ للوقائع، ما يجعل المُشاهد أمام رؤيا تلفزيونية جاذبة تبعث على الترقّب وانتظار توالي الحلقات التي ستكون محطّة أسبوعية على شاشة «المنار»، وتبدأ في اليوم الأول من السنة الجديدة 2018، بالتزامن مع الذكرى الأولى لتحرير حلب الشهباء من الجماعات الإرهابية، وعودتها إلى حضن الدولة.
لم يكن من السهل على حيدر التعاطي مع قصص الناس كعابر سبيل، وهو الذي يعرف ضجيج هذه المدينة قبل تراكم غبار الحرب وهول الدمار. وعن ذلك يقول في حديث خاص إلى «البناء»: حين بدأت التحضير لهذه السلسلة التوثيقية، كنت أبحث عن حلب في ذاكرتي كما عهدتها. ولا أخفيك أمراً أنّني قصدت حلب القديمة أوّلاً، وكانت اللحظة صعبةً جداً، ومن الصعب ترجمتها بكلمات عادية. السؤال الأوّل الذي يقفز إلى البال: ما هو حجم الحقد الذي يحمله هؤلاء المارقون، وإلى أيّ مدى يخشون التاريخَ وعمق الحضارة؟ ورغم صعوبة الأمر، تمكّنت من تخطّي هول الدمار حين رأيت أصحاب المحال والبيوت، ولمست إصرارهم على إعادة إعمار ما هُدِّم، ومدى تمسّكهم بالحياة. ومنهم استمددت القوّة وأطلقت المدى لعدستي كي أنقل إلى العالم صورة المدينة التي تُعدّ بوابة سورية إلى العالم، وهي الطريق الأساس لقوافل التجارة العالمية ومركز الربط التجاري بين الشرق الأقصى وأوروبا وشبه الجزيرة العربية إلى البحر الأسود.
اعتمد حيدر عناوين مختلفة للسلسلة وفقاً للمادة التي تناولها في كلّ حلقة وهي: «كنّا هنا»، «رغم الجراح»، «شامخون»، «حلب البقاء»، «عيون النصر»، و«قصّتي». ولا ينفي فرضية أن يكون الباب مشرّعاً لتتخطّى السلسلة العدد المذكور من العناوين.
ويشير حيدر إلى أنّه لم يستعن بفريق عمل، فيقول: كنت وحدي. ربما لأنّ الأمر يعنيني بشكل كبير. تكلّمت إلى الناس والجهات الرسمية والإعلاميين الميدانيين، وحتّى أنّني خاطبت المباني التي تنتظر أعمال الترميم. وكانت الكاميرا فريق العمل المرافق لي. ومَشاهد كثيرة سيراها المُشاهد، أتت بشكل ارتجاليّ، ذلك أنّ أيّ صورة للحياة تستفزّني وتجذبني نحوها كي تصبح مادة متداوَلة يراها الناس ويتفاعلون معها. وهمّي الأساس أن تساهم رؤيتي في تقديم الأجوبة التي يبحث عنها المتلقّي.
ولا يغفل حيدر مَشاهد المعارك ومرحلة سيطرة الإرهابيين على ثلث مساحة المدينة. وينقل ما عاشه المدنيّون من جرّاء الحصار وكيف اتّخذتهم هذه المجموعات دروعاً بشرية.
أربع سنوات من الحصار لم تنل من عزيمة أهالي حلب الذين بدأوا، ومنذ اللحظات الأولى لانتصار الجيش السوري وحلفائه على الإرهاب، بإعادة إعمار المَرافق الخدماتية في مدينتهم، لا سيّما شبكات الماء والكهرباء. كما عاود الطلاب التوجّه إلى مدارسهم رغم ما أصابها من دمار.
أربع سنوات من الحصار، ولم يتمكّن الفكر التكفيري من التفوّق على عَظمة قلعة حلب التاريخية التي تستقبل فرح الناس بالعودة إلى التحلّق في ساحتها. ولا شيء يعلو فوق العلم السوري الذي يتقلّد أبراجها. ومن هناك يلتقط حيدر لحظته التاريخية ويفتح عدسته على سماء حلب وبنيانها، ليقدّم للعالم كلّه صورةً من بلاد الشام عصيّة على كلّ طامع ومعتدٍ.
«درب حلب»، سلسلة توثيقية تولّى السيناريو وإخراجها عفيف حيدر، وتُعرض الحلقة الأولى منها مساء الإثنين 1 كانون الثاني 2018 على شاشة «المنار» منتجة العمل.