ذكّر إن تنفع الذكرى

ذكّر إن تنفع الذكرى

المسألة الكردية مطروحة بقوّة من خلال ما يجري في عين العرب، وكيف يتصرف الحكم في تركيا، وهو بقيادة «الإخوان المسلمين» الذين يفترض أنهم ليسوا بأجندة قومية عنصرية طورانية، بل بروزنامة إسلامية لا تفرّق بين كردي وتركي. وها نحن نرى كيف تُترك كوباني لمصير محتوم هو الموت مضرّجة بدمها تحت أنظار العالم، لأن الحقيقة المرّة، هي وقوف العالم الغربي مع كيان كرديّ ينسّق مع «إسرائيل»، كما هي حال نشوء كيان بقيادة البرزاني في شمال العراق. لكن وطنيةً كردية مستقلة تنطلق من حسابات مصالح شعبها ممنوعةٌ. ويرى السوريون الأكراد مثلاً أنهم سوريون أولاً وأنّ وطنهم يستحق التضحية، وأنهم واثقون من نيل حقوقهم وخصوصياتهم تحت راية دولتهم الموحدة كما هي حال الاتحاد الديمقراطي ولجان الحماية الشعبية الذين يقاتلون في عين العرب، هذا المقال قبل سنة وبضعة أشهر عن المسألة الكردية يتناول القضية بعين أرغب استعادة مشاهد رأتها وسجّلتها أمامكم.

أكراد سورية 21/7/2013

لنبدأ من حيث تجب البداية: هل في سورية مسألة كردية أم مسألة سوريين من أصول كردية، أم هم أكراد سوريون أو سوريون أكراد أو أكراد سورية؟

لإثنتين لا نستطيع القول نعم: وجود مسألة كردية أي وجود أرض هي جزء من كردستان صافية السكان وتاريخية التجذّر في بيئتها الثقافية والسياسية القومية المستقلة كما هي حال كردستان العراق وتركيا من جهة. وسوريون من أصل كرديّ، أي مواطنون تجذّروا بوطنيتهم السورية وذابوا في حضارتها العربية وما زالوا يحملون بعضاً من خصوصية ثقافية تتمثل بالتقاليد والعادات الخاصة واللغة القديمة والطقوس كما هي حال الكلدان والأشوريين والسريان وسواهم من ديانات أو ثقافات شكلت جزءاً من النسيج الحضاري للعروبة كما شكلت مكوّناً عضوياً في الشخصية السورية. فهم ليسوا سوريين من أصول كردية طالما أن جزءاً لا يستهان به من المعنيين من الناس المنتمين لهذه الشريحة ينظر إلى تكوينه وهويته بطريقة مزدوجة تقارب نفسياً وسياسياً حال أخوتهم في العراق ولا ينظر إلى رابطته بهم كمرتبة ثانية بعد رابطة الوطنية السورية بل تتقدم عليها أحياناً أو تساويها.

في حالة العراق وتركيا منزلة بين منزلتين، أي أكراد العراق وأكراد تركيا، لكن من منطلق وجود مسألة كردية كهوية قومية تتطلّع نحو كيانها الخاص وبحدّ أدنى صيغة فيدرالية تربطهم بمواطنيهم غير الأكراد في العراق أو تركيا من جهة، وببعضهم من جهة أخرى، أي أكراد العراق وتركيا معاً، حيث كردستان الجغرافيا الطبيعية التاريخية، وحالهم خلافاً لتجمعات كردية نزحت بفعل قسوة الطبيعة وقسوة المعاملة نحو منخفضات وسهول وبادية، وسورية وإيران وبالتالي ثمة منزلة بين منزلتين أيضاً في حالة سورية وإيران، هي أكراد ينتمون لهوية وطنهم السوري أو الإيراني فيصيرون سوريين أكراداً، أو أكراداً سوريين بهوية مزدوجة ومثلها في حال إيران ولهم حقوق ثقافية أكيدة لحماية هويتهم وخصوصيتهم، ولهم حق الترابط بأصولهم في ولايتين كرديتين فيدراليتين في العراق وتركيا أو بدولة كردية مستقلة تشكل بلدهم الأصلي كما هي حال الأرمن السوريين مع أرمينيا، أو يصيرون أكراد سورية وإيران المخيّرين بين الاندماج بهويتهم الوطنية فيصيرون أكراداً سوريين أو يصرّون على هويتهم كأكراد سورية يحملون هوية بلدهم الموحد لاحقاً بصيغة دولة جغرافيتها موزعة بين تركيا والعراق ويحملون هويتين في وقت واحد ويقبلون في سورية مواطَنةً سورية. وغالباً يتصرّفون عندما يزورون الوطن الأم كمواطنين أكراداً فيه كما هي حال بعض من الأرمن الذين حملوا الجنسية الأرمينية لأرمينيا وظلّوا يحملون جنسية البلد الذي انتسبوا عبر الهجرة لهويته وخصّوا هنا الحديث عن سورية.

الحالان تعنيان طالما يقيم الأكراد في سورية أنهم ليسوا أكراد سورية بل يصبحون كذلك في أربيل أو ديار بكر وهم في سورية يبقون طالما اختاروا جغرافيتها لسكنهم وعملهم وتعليم أولادهم أكراداً سوريين أو سوريين أكراداً، بمفهوم الهوية الوطنية السورية والهوية الثقافية للقومية الكردية وحق ممارسة الشعور بالهويتين.

الحكم الذاتي كما الفيدرالية كما الانفصال، حقوق أو صيغ تصلح في حالة واحدة هي حالة أكراد العراق أو تركيا وفقاً لتبدّل الأحوال والظروف والمصالح وموازين القوى، لا تباعاً للحقوق وتغير التوصيف للجماعة الكردية فالأصل في الصيغ الثلاث أنها تمنح لأقلية قومية مستقلة في جغرافيتها التاريخية الموجودة ضمن حدود دولة كبرى قد يرغبون بالانفصال عنها أو بالبقاء ضمنها بصيغة فيدرالية أو صيغة حكم ذاتي، والخيار هنا ناجم إما عن ضعف أو غنى الموارد الذاتية للإقليم الذي تشغله الجماعة أو لقوة الدولة المركزية أو ضعفها، أو لتوازن العدد والمساحة في تشكيل ديموغرافيا الجماعة في الدولة الكبرى. لكن هذه الصيغة السياسية بأوجهها الثلاثة تتصل حصراً بالجماعة القومية المستقلة والمتواصلة في جغرافيتها التاريخية وهذه ليست حال الأكراد في سورية.

في سورية للأكراد حق الجنسية وحق تعليم اللغة وبناء المدارس والخصوصية بالأعياد التقليدية وكوتا نيابية وتمثيل وزراي وتشكيل أحزاب سياسية وانتخاب مجالس إدارة البلدات والقرى ذات الغالبية الطاغية منهم، وتشكيل اتحادات بلدية لهذه المجالس لتسهيل التواصل وتبادل الخدمات والخبرات. لكن لا حكم ذاتياً ولا فيدرالية ولا انفصال حكماً حتى عند قيام الدولة الكردية بين أكراد تركيا والعراق في الجغرافيا التاريخية لكردستان. فحالهم تبقى مع فارق التواصل الجغرافي بالدولة القومية الأمّ كحال الأرمن مع أرمينيا.

السوريون الأكراد أو الأكراد السوريون ليسوا أكراد سورية إلا في أربيل وديار بكر أما في سورية فلا. وهذا يعني أنّ ما قامت به اللجان والجماعات الكردية من إعلان حكومة ليس تعبيراً عن حقّ أو سلوك مطابق للمنطق والعلم والتاريخ.

في قلب الاشتباك الكبير والحرب التي يخوضها الحلف الدولي الإقليمي على سورية، أدّى الأكراد تجارب مختلفة منها ما كان استغلالاً لضعف الدولة المركزية وانشغالها بهموم الجبهات والحرب، لممارسة أشكال من التلوّن السياسي والعسكري والتذاكي الأمني بين خيارَيْ المعارضة والدولة. لكن الجوهريّ والأساسيّ بقي على رغم الإغراءات الخارجية وعلى رغم تشوّش صورة التعامل التاريخي بينهم وبين دولتهم الوطنية السورية، ووجود صفحات مؤلمة فيها، أنهم لم يتحوّلوا إلى ذراع للمشروع الأجنبي، ولم ينسوا أن قضيتهم الرئيسة كجماعة تبقى بالمواجهة الدائرة في تركيا. فحتى في ظل الهدنة في تركيا مع الأكراد ومساعي المصالحة، لم يفتح السوريون الأكراد طرقاً مع تركيا للتآمر على بلدهم سورية وظلّوا بمن في ذلك من التحق بجسم المعارضة منهم، نتوءاً يصعب هضمه وابتلاعه.

في المواجهة التي يخوضها السوريون الأكراد مع «جبهة النصرة» و«الجيش الحر»، يعبّرون عن وطنية سورية. ولو رفعوا شعار الحكومة المحلية فهذا موقّت ويمكن التعايش معه باعتباره تقويضاً لمشروع حكومة المعارضة المسلحة وميليشياتها ومنازعة لها على الجغرافيا والناس والسيادة وخلق شعار يسمح بخوض هذه المواجهة بأعلى درجاتها.

عندما تنتصر الدولة السورية على قوى الحرب الحقيقية، سيكون ممكناً التوصل إلى صيغة توافقية مع السوريين الأكراد لترجمة صيغ تحقق لهم الرضا وتحفظ الوحدة الوطنية للتراب السوري، والصيغة الواحدة للدولة السورية.

لا مبرّر للقلق من الخطوة الكردية ولا داعي لتزجّ الدولة السورية قواها في مواجهة ليست هي المعنيّ بها حتى يحين أوان آخر يكون ما تبقى من قوى الحرب قد تلاشى وتكون الدولة السورية الجديدة قادرة على الاتّساع لكلّ مكوّناتها واستردادهم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى