نحن متخلّفون!
عبير حمدان
يُعتبَر الفنّ لغة الشعوب والمساحة الأكثر تأثيراً على المجتمع، خصوصاً حين تكون وظيفته نقل الصورة والكلمة إلى أكبر شريحة ممكنة من الناس. وأيّ عمل فنّي يشكّل انعكاساً لواقع نعيشه ونألف تفاصيله اليومية سواء كان بالريشة التي تغطّي بياض اللوحة، أو سرداً درامياً أو رؤيا سينمائية ومسرحية تمنح الشخوص أدواراً مختلفة بما تضمّه هذه الشخوص من متناقضات إنسانية.
والفنّ ليس حالة طارئة، إنما هو أسلوب غير مباشر لتمرير الرسائل إلى المتلقّي، وتبقى الخطورة في مضمون هذه الرسائل على الصعد: الثقافي والاجتماعي والسياسي، وجدلية التعاطي مع القضايا المصيرية في محيط يضجّ بالفوضى الخلّاقة ويغرق بالتساؤلات حول كيفية المواجهة وتحديد هويّة العدوّ وكلّ ما يتّصل به من روافد بشرية، تفسّر «الحرّية» على قياس مصالحها ومفهومها للانفتاح على العالم الذي بات عبارة عن قرية كونية، ما أفقد كلّ مجتمع قيمه التاريخية والثقافية وتميّزه الحضاري.
في لبنان، ينقسم الجمهور بين متقبّل كلَّ ما هو قادم من الغرب بناءً على قناعة هؤلاء المتقبّلين بأنّ كل ما هو مستورد جيّد ومتقن وفيه الكثير من الاحتراف. وفي ذلك عقدة نقص صارخة وعدم إدارك فعليّ أننا أبناء حضارة عريقة سعى هذا «الغربيّ» ومن معه إلى طمسها وتدميرها وسرقتها في مكان ما خدمة لأطماعه من جهة، ولأنه لا يمتلك حضارة متجذّرة بل إنه يصنع ما هو برّاق من الخارج وهشّ من الداخل.
أما القسم الثاني من الجمهور، فهو المتمسّك بالتاريخ الحقيقي والحضارة، والثابت في رؤيته لناحية رفضه الغزو الثقافي المتعمّد الذي يهاجم كلّ المفاهيم الاجتماعية والأخلاقية التي يجب أن تكون من ثوابت أيّ مجتمع لا يتقبّل كلّ ما يأتيه من فكر مستورد، ولكنه في المقابل يواجه الأمر بالصمت في معظم المواقف، في ما عدا جزء بسيط منه يسعى على الدوام إلى إيصال صوته الرافض هذا الاستيراد المسخ، ولو أتى بكل التقنية الممكنة والمشهدية المبهرجة والعبارات المنمقة الداعية إلى تقبّل الآخر والتعرّف إليه بحجة أنه قد يكون معذوراً في غزوه وعنصريته.
وفي لبنان أيضاً، هناك من صفّق للمحتلّ لأنه يرى أنّ قوّة لبنان في ضعفه، والاعتراف «بجيرانه، إذ إنهم أقوياء ووجودهم أمر واقع وحتميّ». وهؤلاء المصفقون بالأمس أورثونا جيلاً لا يرى أيّ مشكلة في الاستمتاع بالإبداع الهوليوودي، فقط لأنه صناعة جيّدة. من دون أن يكلّف هذا الجيل نفسه عناء البحث عن الخلفية الفعلية لهذا «الإبداع» ومدى تأثيره على العقول وقدرته على ترسيخ الأفكار المرتبطة بروايات اليهود الكاذبة حول حقّهم المزعوم في الاستيلاء على أرض ليست لهم، وإصرارهم أنهم موضع استهداف من كلّ رافض إجرامَهم ومشاريعهم الاستيطانية.
والأخطر من كل ما تقدّم أن هذا الجيل المصفّق، يضمّ وجوهاً إعلامية تصف نفسها بأنها نخبوية ومتحرّرة وواعية ومكافِحة للظلم والفساد. وبالتالي يصبح أيّ خطاب مضادّ لتطلّعاتها، عبارة عن كلام لا قيمة له. ذلك أنها ترى فيه نوعاً من التخلّف والرجعية التي لا تتلاءم مع تطوّر الزمن وانفتاحه.
ومن هنا، لا بدّ من التأكيد أنه إذا كان رفض تمرير هذه الأفكار بقالب فنّي هو نوع من التخلّف، فنحن الجزء الذي يفخر بتخلّفه ويتمسّك به حتى الرمق الأخير. وإذا كان إصرارنا على منع أيّ عرض سينمائي يرتبط بالكيان الصهيوني فكراً وتأييداً وعقيدة تخلفّاً، فنحن نجاهر بهذا التخلّف.
هذا التخلّف أنجب رجالاً قاوموا وانتصروا ولم تزل دماؤهم تزهر على كلّ ربوة وفي كلّ سهل. هذا التخلّف اتخذ شكل الطلقة الأولى في شارع الحمرا حيث يجب أن يكون مقهى الويمبي مزاراً محميّاً من الدولة، لا أن تسمح بتحويله إلى متجر للألبسة ذات الماركة الداعمة للصهاينة في قتلهم أطفال فلسطين.
وهذا التخلّف زفّ عروس الجنوب سناء محيدلي ناراً في قلب المحتل فكانت الضياء الذي منه اتّقدت شعلة المقاومة الوطنية.
وهذا التخلّف حفر في ذهن العدو بأسَ راغب وعباس وعماد وجهاد وسمير القنطار وهادي ووجه حمزة الذي أخافهم لمجرّد أن يكتب بشاعة جرائمهم من فلسطين إلى الشام بكافة وجوههم.
وهذا التخلّف هو تلك البشارة التي واجهت العملاء وكتبت حكايتها على جدران الأسر.
وبعد، نحن لسنا متخلّفين… نحن مقاومون. والأرض التي تُنبت الأحرار أكبر من «ثقافتكم الكرتونية» وتعليقاتكم الإلكترونية. والصحافة النظيفة لا تحتاج إلى سيناريو أميركي بتوقيع صهيونيّ كي يشعر البعض أن مهنتهم بخير. وحين يتعلّم هؤلاء البعض ثقافة المواجهة، ربما سيدركون أن من لا يصون تاريخه ومقاومته وإنجازاته ويقدّس انتصاراته لن يكون سوى «بيدق» متحرّك لمن يدفع له أكثر.
نحن مقاومون، وسنبقى مقاومين بالقلم والسيف والرصاصة والكلمة والجريدة والمسرح والسينما، وسنبقى مقاومين في مواجهة ثقافة التطبيع مع العدوّ الصهيونيّ. كنّا مقاومين، وسنبقى مقاومين حتّى تحرير فلسطين والجولان وكلّ شبر من هذه الأرض الطيّبة… وليمت كلّ «مثقّف مطبّع» بغيظه.