العاشق الصوفيّ لمبادئ النهضة
نخلة بيطار
كيف لي أن أتحدث في بضعة سطور عن حياة مناضل نذر نفسه للقضية؟ والقضية هنا هي أمة بكلّ ما تملك من تاريخ وحضارة، وكلّ ما تتطلّع إليه من مستقبل آمن. القضية هنا: استنهاض الناس ورفع الأمة من الحضيض الى أعلى مراتب المجد والسؤود كي يكون لها مكاناً بين الأمم الأخرى. وليس أيّ مكان. مكانها يجب أن يكون في صدارة الأمم.
عندما كلّفني الأستاذ صباح عبد الله أن أتحدث في هذه الأمسية المميزة لإطلاق كتاب الدكتور إدمون ملحم «الحبّ السوري المدرحي»، تهيّبت الموقف. فالدكتور ملحم معروف بطول الباع في التنظير السياسي، خصوصاً في ما يتعلّق بالقضية القومية، يراه الزعيم أنطون سعاده.
تهيبت الموقف… نعم… وهل يستطيع الواقف على الشاطئ أن ينافس غطاساً غاص في قعر المحيط وخير أصدافه، مرجانة وياقوت؟
طبعا لا! قلت أرفع قنديلي محيياً شاكراً الذين منحوني ثقة أن أقول كلمتي في هذا الحدث الثقافي، على إيمان منّي بأن أيّ ناشط ثقافي في هذه الجالية مهما كان اتجاهه السياسي هو نشاط يخصّنا جميعاً في ملبورن ووجب دعمه والمشاركة فيه كلّ على قدر استطاعته، لأننا بذلك نبرهن أننا جالية حيّة تستطيع أن تعطي فكراً وثقافة وحبّاً.
لكن أجمل ما في هذا اللقاء اليوم أننا نتحلّق حول كاتب لمناسبة إطلاق كتابه الجديد. فهل هناك أجمل منها هدية نقدّمها له في ذكرى ميلاده الذي يصادف بعد ساعات من الآن؟
أغبطك يا دكتور إدمون وأنت ترى من حولك الرفاق والأصدقاء يحتفلون بك وبما تقدّم لهم من عصارة فكرك. فكرك المعجون بأحلام نهوض الأمة. ويقدّمون لك في ذكرى ميلادك هذا اللقاء السعيد.
فشكراً للمنظّمين الذين عرفوا كيف يصبون فرحتي بكأس واحدة، وجمعوا ما هو عام بما هو شخصي. وهذا من صلب المبادئ القومية حيث أن الفرح الجماعي بالفرد يأتي عظيماً بعَظَمة تضحية الفرد من أجل الجماعة!
«الحبّ السوري المدرحي»، غصت في هذا الكتاب الجدّي الذي أجبرني على تمضية أكثر من ليلة، أمحص في كل سطوره، التي كنت أرى خلفها الزعيم أنطون سعاده: فلسفته، آراءه، محاضراته، مواقفه وكل كلمة نطق بها، كل همسة. ووجدت أن إدمون ملحم عاشق صوفيّ لمبادئ السورية القومية الاجتماعية.
جذبني هذا الكتاب الذي يضمّ محاضرات ومقالات دبجها الكاتب في فكر أنطون سعاده في أوقات ومناسبات عدّة وعلى مدى سنوات في أستراليا، وتناول فيها الكثير من المواضيع، شارحاً دوافع انهياراتنا وأسبابها وما سبل المواجهة للنهوض من الوضع المتعفّن الذي نتخبّط به وما زلنا. مرتكزا في تحليلاته على فكر الزعيم.
نعم، إدمون ملحم عاشق كما العشاق في أيام الأصالة. كما عشاق الأساطير حيث يفتدي العاشق معشوقته حتى بحياته. وقد استشهد وفي أكثر من موقع بعشاق الميتولوجيا أدونيس وعشتروت. حيث ضحى أدونيس بحياته صارعاً الخنزير البرّي كي ينقذ حبيبته عشتروت. ولذا، فإن نهر ابراهيم تحمرّ مياهه في الربيع حيث جرى دم أدونيس فيه. إنّ الأمة لن تنهض إلا بتضحياتها واعتمادها على نفسها وعلى صفحاتها المشرقة في تاريخها كي تكون حافزاً لها للتقدّم والتطوّر.
يقول سعاده: «متى وجد الإنسان الحبّ فقد وجد أساس الحياة والقوة التي ينتصر بها على كلّ عدوّ». عندما قرأت هذا القول فهمت جيداً من هو إدمون ملحم الذي نذر نفسه من أجل قومه وقوميته. أصلاً، لا ثائر حقيقياً لا يحبّ! الثوار الحقيقيون هم عشاق صادقون، يحاربون عدوّاً لكنهم لا يقتلون مسالماً، لا ينحرون بريئاً. لا يعاقبون طفلاً أو امرأة. وما رأيناه مؤخّراً في سورية والعراق ليسوا ثوّاراً ولا يبشّرون بقضية: هم قتلة مأجورون يدمّرون بلادنا من أجل إضعافنا وشرذمتنا، ولفت أنظارنا عن القضية الأساس: فلسطين، وعن قضية نهضتنا كي نعود أمة واعية. وقد أفلحوا في مؤامراتهم، لأننا حتى لو انتصرنا ميدانياً فإنه يلزمنا سنوات طويلة كي نعود إلى النقطة التي كنا بها منذ عقد ونيف من الزمن.
كلّ هذا قد حصل وقد يحصل أسوأ منه طالما أننا لم نستطع بناء الإنسان. هذا الإنسان الذي من أجله جاءت الأديان والفلسفات كلّها، ومن أجله استشهد أنطون سعاده.
المدرحية أفهمها بأنها المادة والروح مدغومتان في شكل واحد، هذا يعني عندما نحبّ فيجب أن نعطي كل شيء المادة أي الجسد والروح. وهذا هو الحبّ الحقيقيّ. ففي المدرحية لا مجال لأنصاف الحلول. ومن هنا تتولد القوة. الحبّ هو القوة الدافعة من أجل خير المجموعة. كلّ العظماء في التاريخ، كلّ المحرّرين أحبّوا بكل ما في الحبّ من عمق وشفافية، أحبّوا حتى الشهادة. يسوع المسيح أحبّ وصُلب، أنطون سعاده، تشي غيفارا. وغيرهم كثيرون استشهدوا لأنهم أحبّوا. والمحتفى به اليوم الدكتور إدمون ملحم وجد هذا الحبّ الذي أعطاه القوة والصلابة ليكون مناضلاً في سبيل الحقيقة، في سبيل الأمة وآية خلاصها من وحول الجهل والطائفية، هدفه أن يقوم المغترب بدوره لإنقاذ وطنه، وهو مسؤول عن الذلّ الضارب أطفاله في وطنه: «لا تديروا ظهوركم إلى أوطانكم».
نعم، هذا صحيح، نحن في المغتربات يجب أن نكون عجينة واحدة، بناءً واحداً وإن بنوافذ كثيرة كي تدخلها الشمس. لكنّ معظمنا أضاع البوصلة. وعوضاً من أن نكون هذا البناء الواحد بنوافذه الكثيرة، تحوّلنا إلى سرداب مظلم وكدنا نفقد رؤيتنا في رياح السياسات اليومية المتقلبة في أوطاننا. فرّقتنا في المغتربات فبعدنا عن بعضنا ودغشت دنيانا فأسّسنا إذاعات كي نسمع أصواتنا، وكتبنا صحفاً كي نقرأ سطورنا. فوهنّا وفقدنا تأثيرنا في مجتمعاتنا الحديثة.
نعم، علينا إعادة النظر في مفاهيمنا وتطوير أولوياتنا، كي نستعيد قوة تأثيرنا في البلاد التي ننتشر فيها. إن استطعنا أن نخدم أمتنا في أهدافها البعيدة، يجب أن نصل إلى مرحلة الوجدان القومي، وهو حالة روحية تربط الفرد بالجماعة. وهذا لن يأتي إلا عن طريق الوعي والنضوج الفكري. هذا الكلام صحيح وجدّي. فليسأل كلّ فرد منّا نفسه عن درجة الوعي والنضوج الفكري لديه! وعن النزعة الفردية التي يقول عنها سعاده: «هي مرض عضال فينا»، وهي نتيجة أغلال نظامنا السياسي والاجتماعي. لينظر كلّ واحد منّا حوله وفي داخله فيعرف أنّ هذا الداء قد أوردنا المهالك.
حتماً لن أدخل في مناقشة فلسفة أنطون سعاده ولست أجدر كي أفعل، خصوصاً أنّ هذه الفلسفة جاءت كي تخلق إنساناً جديداً، إنساناً مثالياً يضحّي بكلّ ما يملك من أجل الخير العام. ولذا، فقد اغتالوه كي لا تطلع الشمس على هذا الوليد الجديد. ذاك الزعيم الذي لو قيّض له عمر أطول لغيّر وجه الشرق…
لكن لا تثريب دكتور إدمون. قد أحببت كثيراً ويترك لك الكثير الكثير. إننا جميعاً هنا نفتخر بك، نفتخر بعطائك وصدقك، وهذا الحبّ الكبير في ضلوعك.
كلمة ألقيت في حفل توقيع كتاب الأمين
د. إدمون ملحم في ملبورن