«ما هي إلّا لحظات»… وتدخلون حجرات اللذة الكامنة!

طلال مرتضى

مرّة تالية تستباح شرعة الحرف، ويُسكَب الحبر في غير مواضعه. ما من أحد في البريّة يحقّ له لجم فم الكلام. يحقّ لأبناء الأرض جميعاً التعبير عن ملكاتهم وتبيان مكنونات أرواحهم. لكنّ السؤال الذي لا يفتأ التوقّف على ناصية الورق مستهجناً: ما ذنب اللغة كي تُهتَك علانيّةً وتُفضّ بكارتها عن سابق منفعة؟!

من دلّ هؤلاء إلى درب المطابع؟ أما من ناصح في الله؟ هل فقدت الساحة الكتابية حرّاس الكلام؟

حريّ بي أن أستعيد قسمي السالف في هذه العجالة، «والحبر إن الشعر لفي قهر».

ما من أحد ينكر أنّ الغزل هو فاكهة الشعر. ما من أحد يستطيع إنكار أنّ التفّاحة في الشعر تعني الأنثى بكامل كينونتها، وهي رمزها الأزليّ.

من يستطيع أن يُسقط عن الرمّان حضور النهد العامر كمعبد بوذيّ مكتظّ بالدفء والسكينة؟

من ينفي عن فتنة التوت «دبدبة» حَلَمة مختمرة ومكتنزة بكل هوج الرغبة؟

الجواب… لكل ما سلف: لا أحد… لا أحد.

كلّ الذين كتبوا الجسد، قام بهم بنيانهُ وانعكس إبداعاً في معمار قصائدهم. فمنذ الجاهلية السالفة حتّى موت نزار، لم تخرج القصائد عن طور حيائها، مع أنّ إشاراتها تذهب دونما حواجز نحو استفزاز الحواس.

اليوم، وفي غياب حرّاس الكلام، صارت اللغة عرضة لعابري السرير، صارت شبّاك استجداء ينهل منه المكبوتون ما يمرّ عبر شريط أوهامهم الغريزية.

الكلّ ركبوا مقال: «يحقّ للشعراء ما لا يحقّ لغيرهم»، لك أي والله العظيم صح… بس بالأول صيروا شعراء .

بعض من كلام سأتركه هنا، لا لشيء أو غاية أردت من ورائها الحضور، هو الحبر المتجلّي بكامل سخطه، سُكب عن سابق عمد هنا وعلى مرأى جمهور الكتابة الذين أستخيرهم في هذه البرهة لقول كلمة حقّ يراد منها الحقّ ليس إلّا.

ما تركه إبراهيم خليل في منجزه الجديد «ما هي إلّا لحظات»، والذي ركب خطّ الطباعة عبر «دار النهضة العربية» البيروتية، التي دمغت تحت عراقة اسمها نوع الكتاب شعر … لا ضير لو كان للشعر ربّ كان سيحميه!

ثمّة مقام حروف يتداوله العوام في يومهم المعاش، فلست أدري إن كان كلّ ما نقوله في يومنا العادي من حكي هو شعر؟

اِخلعي عنك جسدك لأجلي

واسمحي لي أن ألتهمه

فأنا رجلٌ قبَليٌّ

أعبِّر عن حبّي بالجنون والعبثية.

لا شك في أني أجد كقارئ من خارج نصّ الحكاية، أنّ التشبيهات غير متطابقة. فرجل القبيلة فيه من الحميّة ما يكتنف ألف أنثى ناعسة، لا أن يقشّرها كحبّة موز ويلتهمها. فكرة الذكورة متورّمة حدّ الطفح هنا.

ثمّة خزّان لغوي شحيح لا يتجاوز بضع كلمات، بدءاً من أنواع الزهور والفراشات والحقول ومفردات سريرية المنشأ مكتسبة من العقل الساكن والمرتبط بقصص سرير الرغبة، وهذا ليس عيباً. فهناك أدباء كثيرون لا يقرأون، وخزّانهم المعرفيّ أيضاً متواضع، ولكنهم في الوقت ذاته قادرون على تشكيل صوَر بديعة في كلمات عدّة، أو إظهار لوحات شعرية بغاية الجمال والبهاء.

كزهرة البنفسج رقيقةٌ يدك…/

تتمايل بتألّقٍ كأجنحة الفراشات …/

ارقصي أكثر وتحرّري من ذاتك ومن خوفك …/

يا ملكة الورود والحقول …/

دعي شعرك يتطاير وانثريه حولك …/

واسمحي لي أن أشمَّك …/

وأضعك عطراً خزامياً كرائحتك.

هذا هو المطبوع من صفحته الأولى إلى فهرسه، حيث تم تدوير الكلمات ذاتها لتشبع رغبة المعنونات الصغيرة التي تمترست فوق هامتها. وهنا تقصدتُ نسخ النصّ كما هو من على الورق لتبيان العيب الطباعيّ، والذي أردّه إلى الدار إن صحّ المقال. فعلامات الترقيم هنا مبهمة، ودلالة النقاط الثلاث لا تشي بأنها في مكانها الحقيقي. فالنص فيه استهلال يجب أن يرمز له بنقطتين على السطر وفيه أيضاً وقف يجب التنويه له بنقطة. لكن دلالة النقاط الثلاث أو الأكثر تومئ بأنّ هناك كلاماً يودّ الكاتب قوله لكنه استعان بالبديل. والكلام الصريح أقوله بكلّ تحرّر، لا كلام ضمنيّاً لم يُقَل، وإن الذي عبر تلك النقاط عبرها عبور السائرين تحت سقف المعيّة.

لا أمنع عن الكاتب أو الشاعر أو أيّاً يكن، شعريته، فالكتابة هي ما أطلقتُ عليه حداثياً، «ميموري الروح» نخزّن من خلالها كل ما يخالج أرواحنا من لواعج، بغضّ النظر أن كانت سلبية أو إيجابية. وأن ما تركه هنا إبراهيم خليل، ليس إلا فعل حياة. كلّ واحد منّا لديه ما يريده أو ما يودّ الإفصاح عن مشتهاه، لذلك سكب مشاعره كما هي من دون أن يمرّرها إلى رقيب… مشاعر فطرية تعود إلى آدم الأوّل:

حاصريني يا حبيبتي/

واجعلي من جسدك وملابسك الداخلية سياجاً/

لأسكنك/

لأتنفسك/

لأموت بداخلك وحولي أسرارك وكل أشيائك/

لأنام في خزائنك/

وأتوسّد نهديك.

«يحقّ للشاعر ما لا يحقّ لغيره» في بدع الأسيجة ليدرأ عنه حاله لهيب الحواس ومقارعة أوارها.

لا أدري إن كنت محقّاً هذه المرّة في المقال، أنّ الكاتب استطاع برشاقة تمرير نصّ سرديّ لا تحتمله إلا مروية مترامية الأرداف، من دون أن يهدّ في ركن القصيدة أو في معمارها الفنّي قيد ارتعاشه وهو ينتقل بها من موضع إلى آخر، وكأنه يكتب برفيف الفراشات بالطبع مع فارق الشهقات العابرة للنصّ وعلامات الترقيم التي أعود بها إلى الناشر كنقطة سوداء في تاريخه المهنيّ. النصّ إشكاليّ بكامل مكنوناته ونُسِخ كما هو، كي يذهب القارئ من خلاله إلى مداه المجدي من النشوة:

على مهلٍ … تسلّقي/

على مهلٍ … انزلقي/

وتأوّهي …/

لا تخجلي من ارتعاشاتك/

تلذّذي شفتيك/

اِرفعي شعرك …/

أطلقي ارتجاجات خصرك/

لتسافر عبري و عبرك/

اِزرعي فخذيك في جسدي/

لامسي صدري/

علّمي ظهرك الرقص التعبيري/

اغمضي عينيك واحلمي/

اِجعلي من عقدك أجراساً …/

تسمعها كل الآذانِ/

اصرخي لحنك السرمدي …/

وتأوّهي …/

حرّري نشوتك … بداخلي/

لتتبللي ../

واخدشي بظفائرك عظامي/

آه من تأوهاتك/

ارفعي هضباتك البيضاء في الهواء/

تنفسيني/

لا تخافي من أصابعي يرقصن فوق حلماتك/

وتأوّهي …/

بعد الملحمة السريرية/

ضمّيني/

اعصريني زيتونة/

لستخرجي منّي أنقى الزيوتِ.

رأيت عن كثب ظهراً يرقص رقصاً بديعاً، وأصابع خرساء تتوّسل الرقص فوق الحلمات، لكن السؤال المباح: أي المعاصر تلك التي تفرز زيتاً نقيّاً؟

لا أحد يحمل إثم المجموعة غير كاتبها، لأنّها موقعة بإصبع أناه الذي لحق بها ليروي عطشها الشبقيّ حتى آخر حرف:

أنا من علَّمك تراتيل العشق/

أنا من خلق الكحل في عينك/

ورسم جسدك/

أنا من احتل أصابع يديك/

أنا ثم أنا/

أنا من يجودك بصوته البحيح/

ويتعلَّم طقوس حبك.

والبحيح هنا مجازاً منحوت من البحة، والبحة تذهب كطقس إيحائي إلى اكتمال الديوان في الحضور.

شاعر وكاتب سوريّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى