الدكتور علي نعمة: الله هو المحاور الأعظم
اعتدال صادق شومان
يعتبر مصطلح الديمقراطيّة من المواضيع الفضفاضة التي احتلت حيّزاً واسعاً في الفكر السياسي والاجتماعي في أكثر من رأي واحد ووجهة نظر واحدة بحكم التغيّر الذي طرأ على مفهوم المدارس الديمقراطية عبر التاريخ والذي أدّى إلى تعدّد تعريف المصطلح الذي اختلف بحسب تنوّع المتّحد الاجتماعي ومتطلّباته ومصالحه في حدود إطاريه الجغرافي والسياسي، وبمكوّناته السكّانية ذات المواصفات الخاصة بها. وبتعبير مختصر، هناك نظام ديمقراطي خاص بكلّ دولة أو قوميّة. وبالتالي، هناك أنظمة ديمقراطية متعدّدة في العالم.
من هنا، تعدّدت الآراء في أشكال الديمقراطية السائدة في العالم، وبات ومن الصعب طرحها ومناقشتها على تعدّدها في مقال واحد، أو حتّى في كتاب واحد يحيط بمعانيها ومضامينها وحدودها وأبعادها وغاياتها وضوابطها وممارستها كافّة.
وفي معمعة الاستخدام الممنهج للإرهاب من بعض الحركات الأصولية الدينية التي وصمت الإسلام بالدين الإرهابي، عبر استحلال التخريب والقتل وسفك الدماء، والتي تلفّ دول المنطقة والعالم، جعلت من العالم يوصم الدين الإسلامي بالإرهاب أو بما يطلق عليه إسلاموفوبيا.
وسط هذا كلّه، يأتي صدور كتاب «الديمقراطية التعبيرية في المفهومين القومي والإسلامي» للدكتور علي نعمة، في محاولة مضنيّة من المؤلّف على مدى سبعة عشر فصلاً بين دفتَي الكتاب في 400 صفحة، مبيّناً القيم والمضامين الإنسانية في الإسلام، تلك التي تؤسّس لبناء فكر المجتمع الديمقراطي اعتماداً على النصوص القرآنية إلى جانب منظومات إسلامية أخرى، منها في باب الألوهية والتوحيد وأسماء الله الحسنى ومنظومة العبادة ومنظومة الحساب والثواب والعقاب، إلى آخر المنظمومة الفكرية العبادية المتوزّعة على آيات النصّ القرآني «التي تقدّم الصورة الحقيقة للإيمان والعبادة والعمل الصالح والتقوى».
كما يعالج الكتاب التكوين الحضاري لمجتمعات العالم العربي أمماً وأقواماً متعددة، التي عاشت أربعة عشر قرناً منذ بزوغ العهد الاسلامي في ظلّ فكر الحضارات الإسلامية العربية المشتركة تفاعلاً حضارياً وثقافياً بين شعوبها.
ثم يتطرّق نعمة إلى تحليل منظومة الحوار في الإسلام في غايته وماهيته، كي يتجلّى «أنّ الله هو المثال الأعلى للحق والخير والجمال وللحوار»، وبهذا يكون الله القدوة الأولى للمحاورين جميعاً.
ويأتي الكتاب على معالجة إشكالية العلاقات بين الفاعليات التمثيلية في ظلّ السلطة الديمقراطية تعريفاً وتوصيفاً لنشوئها، وإشكاليات علاقة السلطة داخل الديمقراطية الحاكمة وسلوك قوى مراكز السلطة في ما بينها. كما يضيء على نقاط الالتقاء والافتراق بين مفهوم الإسلام المختصّ بالإنسان والأقوام والشعوب، وبين الديمقراطية بمفهوم الدولة القوميّة.
يطرح الدكتور علي نعمة في كتابه «الديمقراطية التعبيرية» في معرض كلامه عن رجال الدين «المستنيرين»، ويحذّر من اشتطاتهم عن «السراط السويّ» أو تفسيرهم آيات الكتاب الديني بغير معانيها، أو تحميلها زوراً وبهتاناً مقاصد لا تمتّ إلى الدين بِصِلة. والمفترض إبعاد تسلّط رجال الدين المشبوه ومن «يعتبر أن مبدأ فصل الدين عن الدولة أنّه خطأ في التعبير، خطأ شاع استعماله على الألسنة وفي الكتابات، عن غفلة أو جهل عند البعض أو عن تصميم وقصد عند آخرين». أما حقيقة المقصد بفصل الدين عن الدولة، كما يشرح المؤلّف، أنّه ظهر في أوروبا وقبل الثورة الفرنسية، جاء بهدف التخلّص من تعسّف وجور حكم الإكليروس الذين هيمنوا على السلطات السياسة في معظم أوروبا، فأحكموا سيطرتهم على أمور الناس في تفاصيلهم الدنيوية والمدنيّة. أيّ أن هذا الشعار في جوهره ليس معادياً للدين أو للعقيدة الدينية، بل الهدف هو التخلّص من ظلم الإكليروس.
وكان الأصوب منع تسلّط رجل الدين المشبوه على الدولة والمجتمع، أيّ ضبط أعمال رجال الدين وأقوالهم من قبل مؤسساتهم الدينية، وطبعاً هذا القول لا يتنافى مع أصحاب الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة من زمن بطرس البستاني حتى أنطون سعاده أحد أبزر الدعاة إليها في العصر الحديث. وقد أوضح سعاده في شرحه هذه المقولة أنّ المقصود ليس الدين بجوهره الحقيقي بما هو دعوة إلى الارتفاع بالإنسان، ولا الأفكار الدينية الفلسفية أو اللاهوتية المتعلّقة بأسرار النفس والخلود والخالق وما وراء المادة، بل ما يُفهم من فصل الدين عن الدولة كما منع رجال الدين في التدخّل في الشؤون السياسة وهما طرحان يكمّلان بعضهما لأمر له علاقة بالأحوال المدنيّة والحقوق العامة حيث من البديهي أنّه لا يمكن أن تستقيم أحوال شخصية وحقوق عامة حيث القضاء متعدّد ومتضارب ومقسّم بين المذاهب الدينية، في بلد متعدّد الطوائف والمِلل، فلا بدّ من وحدة قضائية، وحدة شرعية تكفل وحدة الواجبات ووحدة الإرادة القومية.
لهذا، نقول إنّ شعار «فصل الدين عن الدولة» مطلب محقّ حقوقياً، وطرحه لم يجئ لا عن غفلة أو جهل، بل لأجل ضرورة تحقيق الوحدة القومية وحسب، لذا اقتضى التنويه.
كما تجدر الإشارة إلى أنّ هذا الطرح المدني للإسلام سبق وانبرت له نخبةٌ من علماء الدين ومنهم الإمام الشهير في الإسلام عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد» الذي عاش في القرن التاسع عشر، وهو صاحب مقولة «من أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل». وكان من أوائل الذين عملوا على مجموعة من العلماء قد رفضوا الدولة الدينية وميّزوا بين الدين والدولة وتابعوا الطريق الذي شقّه الكواكبي، وأيضاً نذكر القاضي عالم العقيدة علي عبد الرزاق له «الإسلام وأصول الحكم» أوّل دراسة شرعية تؤسّس للفكرة العلمانية داخل الوسط الإسلامي. رغم بعض القراءات التي تحاول اليوم إسقاط هذه الصفة عنهم كونهم دعاة إلى التمييز بين الدين والدولة.
ويحاول الدكتور علي نعمة في فصل «منظومة الحوار في الإسلام» أنّ يؤكّد أن الحوار هو أساس الدين على قاعدة اتفاق بين طرفين الله هو الطرف الأول والأساس فيه وبين المقبل على الدعوة الإيمانية، الذي ارتضى الإسلام من دون إكراه. ومن هذا المفهوم جاءت الآية القرآنية «لا إكراه في الدين» وغيرها من الآيات التي يُستشفّ منها أن الله المحاور الأوّل بامتياز، وهو لا يستكين عن محاورة مخلوقاته. حوارات أشار إليها المؤلّف استناداً إلى الآيات القرآنية ليؤكّد على مبدأ الحوار وأهميته في دعوة الأنبياء والرسل وأن «لا أكراه في الدين» أي أنّ الدين دعوة حوارية تتميّز باستخدام العلم والمنطق والعقل والحِلم والصبر والعاطفة النفسية ويعتمد المنطق والحجّة.
ليصل إلى خلاصة أن طبيعة النظام الديمقراطي في معالجة الأمور يستلزم حواراً ومفاوضات بين الأطراف المتعدّدة وتبادل الحجج والبراهين وممارسة الضغوط المختلفة وصولاً إلى تسوية أو حلّ أو قناعة يقتنع بها الجميع أو الغالبية.
«الديمقراطية التعبيرية في المفهومين القومي والإسلامي» الذي أنجزه الدكتور علي نعمة الصادر حديثاً عن دار فواصل ـ للنشر هو مساحة مفتوحة للسجال ولمناقشة الأفكار «ديمقراطياً»، حيث يكون للسجال مردود حضاري وخرق لوضعنا الديمقراطي المأزوم، ويلزم من هذه البداية أن نعترف أيضاً أنّ أيّ رأي يحتمل الخطأ والصواب.