لماذا تزداد حدّة التدخّلات الخارجية في لبنان؟
د. وفيق إبراهيم
ما كاد وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون يغادر لبنان تاركاً فيه مساعده لإقناع المسؤولين فيه بوجهة نظر الكيان الإسرائيلي حول خلافاته الحدودية معه في البر والبحر… حتى وصل مندوب أممي… بدا وكأنه يهيئ الوضع لزيارة الموفد السعودي العلولا الحامل معه «فرماناً» بإعادة لبنان إلى عباءة محمد بن سلمان. وهذا يتطلّب «مصادرة» الدولة ووضع أجهزتها في خدمة الطموحات السعودية المعادية لقوى لبنانية أخرى.
صحيح أن السياسة والعلاقات الاقتصادية عززتا العلاقات بين الدول ـ بدليل أنه لم يعُد هناك دولة لا تتقاطع مصالحها مع دول أخرى، فتسايرها حيناً، وتحالفُ غيرها حيناً على قاعدة المصالح.. التي يفترض أن تكون مصالح شعوبها.
وهذا التنافس الاقتصادي هو الذي أنتج التحالفات الكبرى التي انتظمت فيها الدول من دون معاندة لحفظ رؤوسها، حتى ان الذي لا يملك مقومات اقتصادية انتمى بدوره إلى هذه المرتكزات لتحصيل مساعدات وقروض كحال لبنان.
لكن النمط اللبناني لعلاقاته بالأحلاف والدول الخارجية، لا يشبه أي نموذج آخر.. فحتى في مرحلة القرن 19 وعمر الدولة العثمانية استطاعت فئات لبنانية نسج علاقات مع فرنسا وانكلترا أدت إلى إنشاء دولة لبنان الكبير الذي انتقل بدوره من الولاء لفرنسا، إلى الاحتماء بالصعود الأميركي العالمي… ومع انكسار احتكار الدولة اللبنانية للقوة نتيجة الوجود المسلح للمقاومة الفلسطينية تدهورت الأوضاع حتى استسلم النظام لمعادلة الطائف المتنوعة الرعاية بثلاثية أميركية، سعودية وسورية.. وهذا يعكس إلى حد كبير تغييراً في موازين القوى إقليمياً وداخلياً.
ولتوضيح أسباب تزايد الدور الخارجي في لبنان، يجب التذكير ان هذا الدور موجود دائماً ومنذ تأسيس الكيان، لكن كثافته كانت معتدلة لانتفاء مقاومة الفئات اللبنانية التي كانت مبعدة عن ممارسة السلطة ولمزيد من تفسير أسباب ضعف الدولة اللبنانية ومنذ تأسيسها، لا بأس من تشريح سريع لطبيعتها…
فهي دولة ذات نظام طوائفي ينتج تسوية بين فئات تنتمي إلى أديان مختلفة مع شيء من الغلبة لمصلحة إحداها على الأخريات، نتيجة تموضعها القوي على مرتكزات إقليمية ودولية اقوى من غيرها. هكذا كان حال الموارنة فأوضاع السنة، إلى الشيعة وهكذا دواليك.
وهذا ينتج صراعاً دائماً بين هذه المكوّنات لاحتكار الموقع الأول في إنتاج القرار بالاستناد إلى تطور القوى الإقليمية والدولية. وأي تغيير على هذا المستوى يؤدي إلى تغيير في الداخل اللبناني قد يحتاج إلى مشاحنات داخلية لتأكيده: الحروب الداخلية في 1958 و1975 واتفاق الطائف في 1989.. وهذه تواريخ تؤكد على الارتباط بين تغيرات الخارج والداخل اللبناني.
أما الصفة الثانية لهذا النظام فهي أنه مذهبي يجعل الصراع طائفياً حيناً مسيحيون ـ مسلمون ومذهبياً حيناً آخر عند ارتفاع حدة التناقض السعودي الإيراني وحسب الطلب. وإذا كانت صفته «طائفية» تجعل أفق الارتهان عند القوى اللبنانية واسعاً أميركا، روسيا، فرنسا وأحياناً «إسرائيل»، فإن مذهبية تتخذ من حركته إيراني ـ سعودي ـ سوري .
هناك الصفة الطبقية للنظام اللبناني بدليل أن أحداً لا يستطيع الوصول للمجلس النيابي إلا إذا كان من أصحاب الأموال أو من العاملين في خدمتهم، هناك مثل معاصر يتجسّد في زيارة الرئيس ميشال عون إلى العراق وعلى رأس لائحة مطالبة، استعادة مبالغ لم تتمكن شركات لبنانية كبرى من قبضها بسبب سقوط نظام صدام حسين الذي كان متعاقداً معها.. قد يكون هذا المطلب ودياً. لكن التخطيط لإعادة فتح خط لبنان ـ سورية ـ العراق ولبنان ـ سورية ـ الأردن، يبدو أفضل لمصلحة إعادة بناء الطبقة الوسطى اللبنانية وتأمين استقرار اجتماعي يطاول الفقراء.. فلبنان أيّها المسؤولون ينتج سياحة واصطيافاً وترانزيتاً واستيراداً وتصديراً.. هذا ما أدى إلى بحبوحة لبنان في المراحل الماضية.. والتركيز على مصالح الفئات العليا يُبقي الوضع اللبناني على ما هو عليه وأسوأ..
إنّ هذه الصفات الثلاث أي الطائفية والمذهبية والطبقية، تنتج بالضرورة نظاماً ضعيفاً تتنافس فئاته على كل شيء تقريباً. وتجد نفسها مضطرة إلى الاستناد إلى قوى إقليمية ودولية لتحسين شروط الصراع الداخلي.. وهذا يجعل من النظام اللبناني ضعيفاً يتلقى تعليمات من ولي الأمر الخارجي.
لذلك فإن العاهة الرابعة للنظام اللبناني هو عجزه عن مقاومة التداخلات الخارجية.. حتى أن كل القوى العالمية، تمتلك منصات داخلية تتيح لها التسلل إلى الداخل اللبناني بشكل شرعي: وهذا نموذج صغير، فما إن غادر الموفد السعودي العلولا معراب بعد لقائه مع سمير جعجع، حتى أطلق هذا الأخير تصريحات مضحكة حول مدى حزنه على أهالي الغوطة الشرقية مسترسلاً خمس دقائق متواصلة حول الأوضاع الإنسانية وما أسماه إجرام المهاجمين من إيران وسورية..!! متابعاً بأن السعودية ليست راضية عن الخلافات بين حلفائها اللبنانيين.. وهنا بيت القصيد الذي يرمي إليه مَنْ قتل مئات آلاف اللبنانيين والفلسطينيين مستعيناً بدبابات «إسرائيل» وطائراتها.
فهل تندرج زيارة الموفد السعودي الحالية ضمن التدخل في شؤون الدولة الضعيفة؟
المعتقد انها تذهب نحو إلغاء كل مظاهر السيادة لدى الدولة، وإلا كيف يمكن لمندوب أجنبي أن يجول على الرؤساء مجتمعين وكل قوى 14 آذار في مرحلة انتخابات نيابية..؟ وتلي زيارته، جولة تيلرسون الأميركي الذي سأل القوى اللبنانية الموالية لبلاده عن توقعاتها للانتخابات المقبلة ومدى حظوظ حزب الله فيها؟
كما أن جولة العلولا تأتي مباشرة بعد انتصارات الجيش العربي السوري والقوات العراقية والصمود اليمني. وهذا يعني شلل المشروع الأميركي ـ السعودي ـ الإسرائيلي، لذلك تتضافر الجهود الأميركية في لبنان والمساعي السعودية والتهديدات الإسرائيلية عند الحدود البحرية والبرية، في محاولة لإيذاء حزب الله في عرينه. والسبب واضع لا لبس فيه، وهو الدور اللبناني ـ الإقليمي الذي يؤديه هذا الحزب بنجاح جلي.. فعلى مستوى الإقليم يلعب حزب الله أدواراً عسكرية وثقافية في آن معاً فهو يحارب في سورية بمجاهديه مؤمّناً نموذجاً ناجحاً في مقاومة الإسرائيليين والإرهاب. الأمر الذي يجعل القوى العراقية واليمنية وعلى مستوى آسيا الوسطى تستلهمه وتأخذ مثالاً قابلاً للتطبيق.. انها اذن ثقافة المقاومة التي تنتشر في العالم الإسلامي وتثير الرعب عند الأميركيين والسعوديين. من دون نسيان دور حزب الله في تأمين استقرار مقبول للبنان من 2000 وحتى تاريخه، وهذا أدى إلى تراجع التدخل الأجنبي في الشؤون اللبنانية.. بسبب موازنات القوى الجديدة.
هذه النتائج هي التي تجمع الصفوف الأميركية ـ السعودية فتضغط على الفئات الداخلية في محاولة لكسر حزب الله في الانتخابات المقبلة.
هذا الجمع المسموم إنما يرمي إلى تجميع أكبر قدر ممكن من التيارات التالية: مستقبل، «قوات»، تيار وطني حر، كتائب وشخصيات مقربة من السعودية، فارس سعيد، اشرف ريفي وخالد ضاهر الموالي للأتراك حيناً وللسعوديين حيناً آخر.. على جانب بعض التيارات الصغيرة التي تعمل في مناطق حزب الله والجنوب والبقاع.
لجهة عوامل الجذب والإغراء، فأولها التوافق حول الوزير جبران باسيل رئيساً مقبلاً للجمهورية بضمانة أميركية ـ سعودية، وبهذا ينضبط التيار الوطني وقد يتسامح بتوزيع المقاعد المسيحية على جهات كان يرفضها في السابق.
بالمقابل يتولى سعد الحريري رئاسة الحكومة طيلة العهد الباسيلي على أساس إبعاد نبيه بري عن رئاسة المجلس، لأنه حليف حزب الله.
هناك وسيلة ثالثة وهي الدعم المالي السعودي. وهنا اشترط السعوديون زيارة الحريري إلى الرياض لفتح صفحة جديدة لعلاقاته المتوترة مع محمد بن سلمان الذي اعتقله في المرحلة الماضية وسجنه ويتردّد أنه ابتز منه أموالاً لإطلاق سراحه.. فتأتي هذه الزيارة لإلغاء هذا الماضي المهين، يعود «السعد» بعدها من الرياض ممولاً بكل ما تحتاجه المعارك الانتخابية على مستوى كامل دوائر لبنان.
فالمطلوب فقط تجريد حزب الله وحليفته حركة أمل من أكبر قدر ممكن من المقاعد النيابية وإسقاط حلفائه في الأحزاب القومية والوطنية ومنعه من التحالف مع قوى مسيحية وسنية ودرزية كبرى. وهذا يعاكس موازنات القوى العسكرية التي تحققت في الإقليم في موقف شديد الغرابة..
لذلك تبدو الدولة اللبنانية الضعيفة أصلاً، أكثر إنهاكاً إلى حدود إلغاء سيادتها على كل شيء تقريباً واندماجها في مؤامرة على فئات لبنانية متنوعة ووازنة «تلعب دوراً» في توفير الاستقرار الإقليمي، وبالتالي اللبناني وتنتمي إلى طوائف وقوى متنوعة. من هنا يبدو لبنان في مرحلة انتقال بين مرحلة التدخلات الخارجية التقليدية إلى مرحلة خسارة السيادة الكاملة المؤدية لإعادته إلى حروب داخلية واضطرابات..
وينبري حزب الله كدأبه مع حلفائه لتعطيل هذه الخطة الجديدة بالاعتماد على مواطن لبناني ناضج يدرك أبعاد التدخلات وأثرها على السلم الأهلي والاستقرار السياسي.. وسلاحه الذي يحمي لبنان من «إسرائيل» والإرهاب والخطة الأميركية ـ السعودية ـ الإسرائيلية الجديدة.