محاضرة للباحث والإعلامي غسان الشامي في الجامعة اللبنانية بعنوان «المشرق والعلمانية»
بدعوة من «جمعية أفاميا الطلاّبية» وبحضور مدير كلية الحقوق الدكتور أكرم ياغي وعدد كبير من الأساتذة الجامعيين وفعاليّات طلابية وثقافية وطلاب الجامعة اللبنانية، ألقى الباحث والإعلامي غسان الشامي محاضرة بعنوان «المشرق والعلمانية» في قاعة المحاضرات في كلية الحقوق ـ الفرع الرابع، وذلك يوم الجمعة الموافق فيه 23 شباط 2018.
بعد النشيد اللبناني، ألقى مدير كلية الحقوق الدكتور أكرم ياغي كلمة ترحيبية بالمحاضر والحضور وأشار إلى أهمية موضوع «المشرق والعلمانية» كونه يهمّ طلاّب كلية الحقوق، وخصوصاً العلمانية.
كما ألقت الطالبة ديانا أسعد كلمة باسم «جمعية أفاميا» حيث أضاءت على الجوانب الحضارية لتاريخ المشرق وما يختزنه تاريخه من علم وفنّ وثقافة كما تختزن طبيعته الإمكانات المادية، ما جعله محطّ أنظار وأطماع الأعداء الذين حاولوا طمس حضارته وهويته وتجزئته وتفتيته.
ثم قدّمت الدكتورة هالة أبو حمدان المحاضر حيث استعرضت العلمانية كإحدى الخيارات التي انتهجته بعض المجتمعات والدول كما انتهجت مجتمعات أخرى الدولة الدينية، وطرحت الإشكاليات التي رافقت العلمانية في الغرب ومنها رفض وقمع الأفكار التي لا توافق نهجها العلماني، وهذا ما طرح إشكالية العلاقة بين العلمانية والديمقراطية. كما أشارت إلى مخاطر التعصّب الديني والمذهبي الذي يعاني منه مجتمعنا .
«البلاد التي تشرق منها الشمس»
بعدها، استهل الدكتور غسان الشامي محاضرته بلمحة عن التاريخ المشرقي، وقال: استخدم علماء الآثار مصطلح المشرق ليدّل على جغرافيا تمتد من الساحل الشرقي للمتوسّط وبرزخ السويس إلى جبال طوروس وبلاد الرافدين، ودرسوا ما أنتجته الأقوام والحضارات والاحتلالات والإمبراطوريات في هذه الرقعة الجغرافية، كمحاولة منهم للتغلّب على التقسيمات السياسية وتداخلاتها. أوّل من استخدم المشرق كمصطلح للدلالة على منطقة جغرافية لم تحدّد فعلياً هم الإيطاليون، وذلك في العصور الوسطى، وتبعهم الفرنسيون والترك، ذلك لأن الطليان كانوا سبّاقين في الدخول إلى المشرق من بوابته التجارية، وأقصد من المدينة الكوسموبوليتانية حلب، حيث وقّع البنادقة أول معاهدة تجارية مع هذه المدينة عام 1207، وتلتها إمارات أخرى وافتتحت أول قنصلية للبندقية فيها عام 1548، تلتها أخرى فرنسية عام 1562 وإنكليزية عام 1586، ومن هناك وكمركز تاريخي لطريق الحرير جرى الانتشار واستكشاف المشرق، وهذه الكلمة حرفياً تعني «البلاد التي تشرق منها الشمس»، واعتبرها المؤرخون وعلماء الآثار مركز تنوّع حضاري.
غياب العقل العلمي الناقد لسيرورة التاريخ
أمّا العلاقة الوشيجة بين المشرق والمسيحية كحضور وفلسفة فينبع من مكان وزمان ومدى روحي آرامي للمسيحية الأولى، التي سميّت بطريركيتها الكبرى «أنطاكيا وسائر المشرق»، ومن أسماء المسيح المشرق ترتيلة قديمة .
لم يعرف المشرق الراحة السياسية والثقافية إلّا لماماً، فكان ممراً ومقرّاً للحروب، وكم أضحك عندما أسمع كل يوم أحد الجهابذة يقول: «إنّ أمتنا أو بلادنا تمرّ بمنعطف خطير». ألم يكن الاحتلال الإغريقي منعطفاً خطيراً والروماني والبيزنطي والفارسي والحروب إبان وبعد الفتح العربي ثم الترك والسلاجقة والعثمانيون والفرنسيون والانكليز والأميركان والعدو «الإسرائيلي»، وتدمير كل هذه الآثار المتراكمة منعطفاً خطيراً؟
ويضيف: ألم تكن الحروب الدينية والمذهبية منذ ألفَي عام منعطفات ومهوارات خطيرة، حتى ما يسمّى بالدولة الوطنية بعد الاستقلالات الخلّبية هي منعطفات وأكواع خطرة؟ نعم، إنّ ما يحدث اليوم ليس جديداً، كما أنه ليس بجديد أن العقل العلمي الناقد لسيرورة التاريخ غير موجود.
لكن ما حدث سابقاً ويحدث الآن في المشرق يدفعنا إلى وجوب الاعتراف بأننا شعوب وقبائل وأفخاذ وبطون وشبه مجتمعات مأزومة في الجغرافيا والهوية، فهل نعود وندفن رؤوسنا في الرمال؟ أم نبحث عن أفق يليق بإنجازات ما بعد الحداثة في الألف الثالث، وهل سنتوقف عن مقاربة جذور أزماتنا ونطمر تخلّفنا ومخلفاتنا؟
لسنا قطعاً أول أمّة تناهبتها الأزمات، فما من أمّة سلمت عبر التاريخ من اقتتال أو احتراب وقتل وتشنيع، لكن الأمم الحيّة التي تغضّن في أرحامها جينات التنوير والعلم النهوض، قرأت واقعها وأعطابها، واستخلصت العبر، ثم صنعت مستقبلها، فهل تكون أزماتنا والاقتتال والحروب والمؤامرات والذبح والطعن والسحل الحاصل في المشرق باسم الله والدين والمذهب والسياسة والغاز والبترول ضوء تبصّر يدفعنا لإعادة تجميع الهويات المشلّعة وبناء المصطبة الموحّدة، ثم اللحاق بعوالم الحضارة والتقدّم الإنساني؟
العلمانية خلاص المشرق
لقد سبقتنا شعوب إلى الذبح باسم الله والدينن دونكم اسبانيا ومحاكم تفتيشها، وفرنسا ومذبحة سان بارتيميلي، وخرجوا بعدها إلى المواطنة والعلمانية، وها نحن نئن تحت الحمولة الثقيلة للمؤسساسات الدينية ودور الدين والطائفة والمذهب في نبش الاحترابات ما يتطلّب موقفاً واضحاً وصريحاً وجازماً ونهائياً لا لبس فيه في موضوع العلمانية، لا في تعريفها الأولي كفصل الدين عن السياسة، أو الدولة فقط، بل أخذها كموقف واضح ونقدي وإيجابي من الدين والعقل والقيم والسياسة.
العلمانية لا ترفض العقائد الدينية، لكنّها في السياق السياسي ترفض سطوة أي معتقد ديني على حياة الناس، وحتى العلمانية في الغرب لم تنف الأديان ولم تتدخل بشؤون الكنيسة، التي عادت وازدهرت روحياً في الكثير من البلدان.
إنّ العلمانية تستدعي التمييز بين ما هو دنيوي وما هو مقدّس، لذلك فإنّ أكبر تشريف للدين يأتي من العلمانية، وعلى ضوء تجارب الأمم فإن العلمانية هي التي تعظّم الدين وتحترمه عبر وضع حدّ للمستفيدين منه والمتاجرين به، وتنزيهه عن دروب السياسة والنزاعات، وجعله يتفيأ القيم الساميّة المعلنة والمغضّنة فيه،لا بل إنها تمنع الساسة من توّسل الدين ومؤسساته لمآربهم الشخصية، وما يحدث اليوم يؤكّد ذلك فها هو الدين يُستغل كآلة للقتل ويتعرّض إلى إهانات وتسفيه يومي.
لا إصلاح ولا تجديد لحياة المجتمع من دون العلمانية، التي تستبطن حكماً الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي في مراميها إنجاز فكري إنساني عام يجب الأخذ به في المشرق بعيداً عن سطوة بنى الميتافيزيق، وإن التأكيد على رفض أبلستها هو تأكيداً على عدم وجود تعارض بين سعي العقل إلى الإيمان وسعيه إلى العلم.
لكي نترك للأجيال وطناً…
وأخيراً، قال الباحث غسان الشامي: إن المشرق، وبعد هذا الاجتياح الديني التكفيري وهذا الموت والقتل يحتاج إلى نهضة تنويرية ثانية على المثقفين تنكبها وجرّ الساسة إليها، نهضة تعتمد على العلمانية والمواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية وسيادة القانون وتكافؤ الفرص والاعتراف بحقوق جميع المواطنين في الثقافة والاقتصاد والسياسة، ولأننا يجب أن نعرف أوجاعنا ونشهدعلى دمائنا ، وحتى لا تستباح أكثر بلادنا ونعود لتكرار أخطائنا، وخوفاً من أن تشلّعُ الجغرافيا والديمغرافيا والدينوغرافيا أكثر، لا بدّ من دعوة أصحاب العقول النيّرة والإرادات التغيرية إلى إعادة ضخّ العلمانية التنويرية في شرايين حياة المشرق وبلاد العرب المتصحرة، حتى لا نكون شهود زور، ولكي نترك للآتين وطناً لا، محميّات ومضارب.