ميكانيزم الأنثوي في «فراش ذبح» لمحمد العرابي
أحمد الشيخاوي
في أجدد إصداراته لم يزغ الشاعر المغربي محمد العرابي، عن سكّة الثأر الإبداعي في رونق ونضارة انحيازه إلى فراديس جوانب المفتقد في الأنوثة كسر تنطوي عليه كونية النوع البشري، أو بالأحرى، المغيّب منها، والمطمور في وعينا الجمعي التزاماً ودأباً على إسكان روح الشعريّة في ما خلف المسافات المتيحة لإصغاء فنتازي في وسعه مقاربة الإشكالية الوجودية المصطبغة بهيمنة الصوت الذكوري الآثم، في أقصى نوباته.
مجموعة باذخة تأبّت من خلالها الذات، إلا أن تتسربل بروح المقامرة في بحبوحة المتاخم للنصّ المطوّل المفتوح، المترع أيضاً، بفواصله العرفانية المستعصية على الدغدغات العابرة، كممارسة في مطلق سلطتها على قوانين اللعبة الكلامية الناهضة على استنطاق مناخات الشهواني مصوناً بخرائطية الغرائبي مناوراً بغواياته، وفي الآن ذاته، على النحو المبعثر لأوراق الدفين متضوّعة بعلقميتها وصدّاحة بمزامير تاريخانية اشتهاء الموت.
فعل كتابي يسري في برزخية عاقلة، وفقاً لسردية مخاتلة تستغرق النفس المتقطّع، تناطح بنزعتها الأميل إلى معطيات السّير ذاتي، مخلخلة نظم اليقينيات الكاذبة الرازح تحت نيرها راهن تمجيد فحولة زائفة مراوغة.
إن هذا الخطاب الشهواني، تتواتر دبدباته موازاة مع كمّ التّسريبات الرّسالية، أو الشحنات التعبيرية في تشرّبها أسلوبية موغلة في التّقنّع، تقترح فلسفة تصوّفية مزدانة بباقة من الإرهاصات والاستلهامات، محاولة توريط الذات بصياغات الشاذ والمعزول، ضمن دوائر صبيب الرؤى المغازلة بها ثقافة الجسد مفلساً إلا ممّا يمكن أن يفرزه منطق التصوير الطوباوي للذات والغيرية والعالم.
حكاية تترجم هديل الذات خارج الزمن، تنمّ عن تجليات القرين الضاغط، إذ لا خطّ عدا ما يمليه ويرتّل مواويل المعاناة تحت سقفه، الفعل الكتابي النافر وهو يسرق من لحظات الحياة، كي يزنر فراغات حياة ثانية، ملء القصيدة المرثاة، التي هي عدل الفجيعة وأكثر، وعلى مقاس النقصان المولّدة إياه، هواجس ما بعد تجربة الموت.
بحيث لا تفضل سوى تفاصيل الوطن اليباب، أرض الشيح، على حدّ تعبير شاعرنا، مدويّة بمدى إرباكية منطوق البياض المستفزّ والمحرج لعنتريات الذكورة الخادعة.
لبوس ذهني
من ثمّ هذا الاستلاد المقرّ براهن العماء اللافح، مسايراً للمسعف في القبض على خيوط لعبة مرتجلة مع كونها تحوز كافة حقوق الذوبان أو الانصهار في ذات الغائبة وبمعزل عن قوالب التهجين، أي تحتفظ بأنساق الكريستالية والمكاشفات والتقمّصات غير الواقعة في مستنقعات التكرار والاجترار.
خيانة للحواس وجنوح إلى الحالة الواعية، الطاغية بفعل توسّل صور فضح الماهية وتعرية الذات بالتمام.
ضرب من استقطاب تفتي به إلزامية خوض المتاهة الإبداعية، في أناقة عروض ابتلاع الذات لمعاناتها.
وهذا الذي لما يزل منغمساً في عناصر تشويقيته بعد، باستنزاف هوليودية مبسترة بترديدات وتعدّدية وتناسل المعنى، مذكية فتيل الإثارة المزمنة، ومسوّقة لطقوسيّات رفع الستارة عن مفاصل المحكي الشعري وحيثياته المتناثرة، بما التوجّه مسْرحة بالنهاية لسياقات القبض على حقيقة شعْرنة ذات الفقد.
ثمّة حسب المستفاد من كهذا توجّه وانتشار، مشبوب بتلاوين الحضور الذهني القوي، العديد من حلقات المفقود، وغابة من الوجوه الآفلة، في خضمّ كلّ معطّل استحقّ نظير هذه البكائية المعلنة مذ أولى عتبات المنجز:
«وَرْدَةُ الأَنْهَارِ، أَيَّتُهَا الْبَاذَخَةُ بِجُرْحِهَا، الْمُخَدَّرَةُ فِي مَيَاثِمَ حُمْرٍ، الْمُغْمَى عَلَيْهَا، فِي ذَاكِرَةِ الأَشْجَارِ، عَرُوسًا تُزَفِّينَ، فِي مَوْكِبِ وَصِيفَاتٍ، بِأُبَّهَةٍ، تُلَطِّفُ أَهْوَاءَك، مَرَاوِحَ مِنْ أَجْنِحَةِ الطُّيُورِ، إِلَى عَرِيسِك، الْمَوْت».
خطوة إلى الانتحار في تلكم الكلمة التي لم تثمرها لحظة غضب ولا تمرّد، بقدر ما جاد بها اختمار أسئلة التصوّف في عقل عاشق تنكز وجوديته البلهاء، دوال المائيات وكل محمول على الخطيئة الجندرية، بما هي اغتصاب رمزي، يكتمل به الطهر.
انشطار ذاتي
«لِهَذَا الْجَسَدِ، الْفَيْضُ الدَّاخِلِيُّ، وَالاحْتِراقُ الْمُؤْذِيُ، وَالْخَطَرُ، وَالصَّبْوَةُ الإِنْسَانِيَةُ الْمُقَدَّسَةُ، وَالْمُفَاجَأَةُ وَالدَّهْشَةُ، وَالْمَجْهُولُ الَّذِي سَيَبْقَى».
هنالك تقابل تبصمه إقحامية تيمات الإيروتيكي الضاجة به إرسالية المنجز، بحيث لا يصهل خطاب الجسْدنة، إلّا عدل حضور الميسم الصوفي، ما يسهم بحظوظ من دفع الذات إلى مركزيّتها وتوازنها الأصلي، خلاف لما قد تكون واشية به، واجهة الحكاية، المذيلة بجنائزية المشهد، في كل فصل من سرديّاتها العاكسة لواقع انشطارات أنوية، أُجريت عرضاً بشكل قصدي، على لسان الغائبة / الحاضرة في متون هذه الشعرية.
جدليّة الذات وواقع الجنون الذي يمارس انسكابه على قدر تجريبية تحتفي بذاكرة المكان ميسور، هذا المنبت متراخي الظلال، كمعادل للجسد الطوباوي المتهتك بأريج الشجرة المباركة، زيتونة الحكي المضّاد، والمُحاصِر برؤى استنفارية ضامنة لامتداد التوشّح بعذرية أبدية التوهّج، رافعة مفردات الأنثوي فوق قواميس الاعتيادي والمهجور، بل وفوق الحياة والقصيدة على حدّ سواء، مدشّنة بذلك إستطيقية التخطّي والتجاوز، صوب أقصى النقاط في خارطة المثالية.
هو انثيال عرفاني، وإن لاح ممسوساً بمحطّات هذيانية، أحيانا، يقبع وقد روعيت في اجتراحه، شتّى شروط ومواصفات الحفاظ على الانسيابية والرشاقة للدفق التعبيري الهادر، مرفقاً بكامل الحيطة والحذر من فخاخ الهدر النرجسي الممعن في الإسفافات التي قد تجيء مشوّهة ومثبّطة لزمن استغراق جرد دوال هذا الأنثوي.
إذ الحاصل هو تفادي ذلك بالكامل، بالإتكاء على ثقافة تنصرف كليّاً، إلى جملة من الخروق التركيبية الواقية من أي تنافر، والمشرعة على آفاق تمطيط المفردة عبر عملية إفراغها إلّا من المحتوى المانح انطباع أنها تُجري الشهواني والصوفي كلاهما على خطّي تواز وتكاملية وتلاقح.
مستويات شبحية لتجليات الأنثوي
مذ أولى قصائد الديوان المقلّة في عناوينها، نجد الذات الغائبة، وقد آثرت امتطاء موجة العقل، في سرمدية أو أثيرية بسط تفاصيل ما بعد تجربة الموت، ما خوّل لمعمارية القول الشعري، ها هنا، برزخية مقبولة مهّدت لامتصاص أو استساغة بضع ثغرات تمّ اقترافها، هنا وهناك، لم تك في الحسبان، هي من قبيل زوائد دودية، أثقلت إلى حدّ ما، دور الانفلات بالمنظومة المفاهيمية المعالجة لميكانيزم «الأنثوي»، نافذة به إلى صرح كونية لامّة وأشمل.
تنميقات مغشوشة، شاكت عبور الإستعارة في كلّيتها الوامضة، بيد أن هذا كلّه لم يكن ليشكّل مروقاً مستقبحاً أو مثلباً ذا بال، يعكّر صفو أجواء استدعاء الأنثوي، كون متوالية الأغراض العامة الذائبة في فلك تجليات هذا الميكانيزم المطلق، تشفع للهفوة، وتعوض عن الانزلاق بصرامة وحزم.
لعلّ النافذة الأوحد للتوغل في نأي هذه العوالم المدجّجة بترسانة عرفانية قد تزجّ بها في قفص الإتهام بالغموض والنصانية المنزوية المنغلقة، العرفانية المؤثثة لجسد الشعرية على ترامي فصوصه في مطلق الاعتراف بغائية قلب المعادلة والطاولة على أنصار وأتباع ثقافة تسطيح مفهوم الذكورة وإلحاقه بفحولة مقنّعة جائرة.
كون هذه الفسيفساء الكلامية، في ما تترهّل به، من تركيبية وتعقيد، ليس يفصح عن المتواري من دررها، ويفسح في مسافات استغوار كينونتها، سوى المتماشي وحقول دلالة المجاور للكلمة المنقوشة على ظهر غلاف ديوان «فراش ذبح»، أنعم به من مادة دسمة عصية على أي افتضاض خجول.
الجسد الغائب، أو الشبيه المتمتّع بسلطة شبه مطلقة، خارج الاعتبارات الزمكانية، الملهم، المغدق على المخيّلة بأشهى تجارب الانكتاب، إذ يطالعنا ملبوساً بحمّى ذات الفقد وسائر ما ينجذب إلى علويتها الباطنية الغائرة السّحيقة، محتفية بقطوف الجسد الدّاني المحتجّب، أو الزئبقي الأشدّ تفلّتاً وأفولاً مع احتمالات معاودة بزوغه الخاطف.
ماذا يقول لنا هذا الأنثوي خارج أطرنا الثقافية الذكورية؟ كيف يفكر ذاته، كيف يفكّر آخره؟ كيف يلمّ تشظّيه وهو في قبضة الحمى الكونية، وكيف يحيا أزمته؟ حين مواجهته لغريمه المسؤول عن كل مآسيه؟ هل ينفتح، أم يظلّ بين أسوار مناعته، باعتبار أن معناه، معنى كينونته، يحتاج دائماً لعلاقة بأكثر من واحد مطلق في عزلته؟ يزعم جورج باتاي بأنه لا وجود لمعنى بالنسبة لواحد: «il n y a pas de sens pour un seul».
النماذج الكونية التي غرقت في عزلتها، مثل بطلة مالارميه في قصيدته «إيرودياد»، ونرسيس في عشق صورته حتى لم يعد هناك حيز فيه لآخر، كان مآلها الفناء، وبؤس المصير. بأي ثمن إذن، يحقّق الأنثوي معادلته المستحيلة: تخليص الجسد من تاريخ طويل من الاضطهاد والاستغلال والعبودية، من الحرمان والوصاية، وفي نفس الآن عدم الوقوع في فخّ التعالي المطلق على الآخر الذي من شأنه أن يورد الأنثوي مورد الحِمام»؟
ختاماً، يمكن القول أن هذه التوقيعة تستمد نكهتها الخاصة من استطاعة الذات المبدعة ومنسوب قوتها في ركوب موجة المغاير، وسريان دوالها في المبطّن بغرائبية العتبات، بحيث يُختزل القول الشعري في كهذه تجارب، أو يكاد، فيما يمكن للمتلقّي أن يتعثّر به من ظلال وإيحاءات مستقرّة في رحم العنونة.
إنّها شعريّة النصّ العتبة، الثرية بها جلّ إصدارات هذا الاسم الوارف الذي يشقّ لها ممراً سرياً في قلوب عشّاق القصيدة الحداثية وطنياً وقطرياً، بما الممارسة مزاوجة رهيبة ما بين الذهني والحسّي، وسائر ما هو محمول على انكسارات لحظية يولّدها الوفاء أولاً وأخيراً للقصيدة مثلما نشتهيها وأكثر.
شاعر وناقد مغربي