الجمال في وحدة التنوّع والتناغم: الثعالب الغبية ومصيدة ثقافة الطائفية والزواريب…!
نصار إبراهيم
«أحد كبار الأغنياء في الغرب، خصّص نصف إيراده لعلاج المرضى الفقراء، من كلّ لون ودين، مما أثار أحد القساوسة فقال له:
ـ ماذا لو خصصت هذا المبلغ لمرضى طائفتك وحدهم؟ فأجابه الرجل:
ـ لا يا سيدي.. ليس ثمة طاعون كاثوليكي، ولا سلّ بروتستنتي، ولا سرطان أورثوذكسي».
تخيّلوا… فقط تخيّلوا لو أنّ كلّ الكائنات على الأرض من جنس واحد، كأن تكون مثلاً تفاحاً فقط، أو رجالاً فقط، أو نساء فقط، أو بطيخاً فقط… أو حميراً فقط… أو أم أربعة وأربعين فقط… فكيف ستكون الحياة والواقع حينها يا ترى!؟
ثمة سؤال آخر: هل هناك من يعتقد أنه لو كان كلّ البشر على الأرض من دين واحد أو طائفة واحدة أو حزب سياسي واحد أو لون واحد أو جنسية واحدة أو جنس واحد لن تكون هناك صراعات وحروب واشتبكات وملاسنات وحماقات وسفالات!؟ المتتبّع لخط سير تاريخ تطوّر الإنسان والجماعات البشرية وتطوّر إنتاج أدوات الإنتاج وتقسيم العمل… سيجد أنّ الإنسان قد تقدّم من مستوى القطيع البشري الأوّلي الخاضع لقوى الطبيعة نحو وضوح العلاقات من على قاعدة أنّ الإنسان بطبعه كائن اجتماعي… يشكل التضامن ركيزة حاسمة في بقائه واستمراره…
في هذا السياق تطوّرت العلاقات الإنسانية من مستوى الجماعة الطبيعية، الأسرة، ثم عدة أسر، عشيرة، قبيلة، قومية، شعب… وصولاً للأمة… بطبيعة الحال جرى هذا التطوّر عبر مئات آلاف السنين… ويشمل هذا التطوّر التاريخي الانتقال من تشكيلة اجتماعية إلى تشكيلة أرقى من التشكيلة المشاعية الأولى ـ ثم العبودية ـ ثم الاقطاع ـ ثم الرأسمالية ـ وتالياً يفترض الاشتراكية… وتدخلت وأثرت في هذه العملية مجموعة لا حصر لها من العوامل: الطبيعة، الجغرافيا، مستوى تطوّر اللغة والتواصل، الاقتراب أو البعد من البحار وأحواض الأنهار، قرابة الدم، الاختلاط، الحروب… مستوى تطوّر الزراعة والوفرة الغذائية العامل الاقتصادي … التناقضات والصراع الاجتماعي الطبقي وغير ذلك… تبلور الوعي القومي ومفهوم الأمة كإطار لضبط التناقضات الداخلية وقبول التنوّع الفكري والسياسي والديني والاجتماعي والإثني.. وأيضاً مواجهة التهديدات الخارجية للأمة ومصالحها.
خط التطوّر التاريخي هذا لم يكن خطاً مستقيماً، بل خطاً لولبياً معقداً… لكنه صاعد باستمرار نحو التحضر…
إذن تشكل الهويات جرى عبر صيرورة تاريخية اجتماعية ثقافية اقتصادية غاية في التعقيد… وكان هذا التشكّل ينحو دائماً باتجاه صَهر واندماج الجماعات البشرية/ الإنسانية… وفي هذا الإطار تشكلت الهويات وتطوّرت من هويات أولية بدئية وصولاً للهويات الكبرى القومية والوطنية… التي ترتكز جميعها إلى عامل حاسم عابر لكلّ الجماعات البشرية عبر التاريخ.. وهي الهوية الإنسانية. تأسيساً على ذلك… فإنّ مقاربة مفهوم الهوية وتجلياته مسألة غاية في الأهمية… بمعنى بأيّ اتجاه وكيف وما هي الدوافع والغاية من تظهير مفهوم الهوية القومي؟ هذا سؤال محوري وراهن وحاسم بالنسبة لنا الآن كأمة وشعوب عربية.
فأيّ مقاربة أو سلوك سياسي أو ثقافي يستهدف إعادة إطلاق مفهوم الهوية باتجاه نكوصي أيّ رجعي.. ايّ إيقاظ الهويات الجزئية بهدف العودة للهويات البدئية الأولية الطائفية والعرقية والإثنية والجنسية والقبلية والجهوية… لا يمكن إلا أن يقود إلى ردّة رجعية عنيفة تؤدّي لتدمير الشكل الأرقى للهوية، أيّ الهوية القومية أو الوطنية وجوهرها الإنساني… الذي يتجلى في المواطنة…
هذا السلوك والممارسة يعكسان «ثقافة الثعالب الغبية» التي تذهب إلى المصيدة بأقدامها، ومع ذلك تتحدّث عن الحرية والتطوّر والوطن والشعب والأمة.
هذا بالضبط ما تحاول أن تغذيه قوى الاستعمار والتدخل الخارجي والقوى الاجتماعية الرجعية الداخلية المرتبطة اقتصادياً ومصلحياً بالرأسمال العالمي… إذ أنّ إشغال الشعب أو الأمة أو المجتمع الكبير بتناقضاته الداخلية هو أفضل وسيلة لتدميره ذاتياً… أيّ دفعه لمصيدة زواريب الطائفية والجهوية والتعصّب الاجتماعي والسياسي والفكري الضيق.
يحدث هذا فيما قوى الاستغلال والهيمنة هذه، وبغضّ النظر عن أديانها وطوائفها وجنسياتها، وسواء كانت خارجية أو داخلية نجدها دائماً تتوحّد في ما بينها في مواجهة غالبية القوى الاجتماعية والشعبية التي تهدّد مصالحها ووجودها، لهذا فإنها ومن أجل سيطرتها وهيمنتها تعمل وباستمرارعلى إشغال الغالبية الشعبية في تناقضاتها الداخلية لاستنزافها ذاتياً.
هذه العملية تشكل أخطر عملية ارتداد تاريخي اجتماعي… إنها تستهدف العودة بالمجتمع إلى مرحلة التمزّق والجماعات الصغيرة المعزولة المنغلقة على هويتها الجزئية كبديل عن هوية الصهر الجمعي المتمثلة بالهوية الكبرى الجامعة لكلّ مكونات المجتمع/ الوطن/ الشعب/ الأمة.
السير في هذه العملية بوعي أو بدونه لأسباب داخلية أو خارجية هو سقوط ثقافي وسلوكي للمجتمع… حيث تحطم الهوية الجزئية طائفة، دين، مذهب، عرق، عشيرة، قبيلة، قومية… عقيدة… لون، وغير ذلك الهوية الجمعية وتمزّقها… وبهذا يتخلخل المجتمع وتهتزّ ركائزه المتشكلة عبر التاريخ… ليحلّ محلها الشوفينية والانغلاق والاحتراب والكراهية والعنصرية الضيقة.. وهذا تشويه وتمزيق واستنزاف للوعي والقدرات والثروات التي تراكمت بفعل تطوّر المجتمع ووحدته العامة.
هذا ما قصده أمين معلوف في كتابه الشهير بمفهوم الهويات القاتلة… وهذا ما يجري الآن في مجتمعاتنا العربية، أيّ العودة بالأمة والشعب والمجتمع الكبير نحو الهويات القاتلة… الهويات الغريزية الأولى والبدائية… وهذا بالضبط ما تشتغل عليه وتغذيه قوى الاستعمار بصورة عميقة وتراكمية، بصورة مباشرة وغير مباشرة… بهذا المعنى كانت اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916 ذروة هذه العملية حيث جرى تقسيم الوطن العربي إلى أقطار ودويلات ومشيخات صغيرة… كما جرى تفعيل القبلية والطائفية وتسعير التناقضات الداخلية بهدف فكفكفة خيوط «سجّادة» المجتمع بما يفقدها جمالها ووحدتها وتماسكها.
اليوم ومنذ بدء ما يسمّى بالربيع العربي تشتغل مئات القنوات الفضائية والصحف والصفحات الالكترونية والكتب إلى جانب الاستخبارات والتدخلات العسكرية والغزو الثقافي والتغريب والاستلاب على تأجيج وتسعير «الهويات الغريزية» في المجتمعات العربية باسم الدين والطوائف والمذاهب والقطرية… والهدف العميق هو تحطيم ركائز الهوية القومية للأمة، التي في حال ترسّخها ووعيها سياسياً واقتصادياً وثقافياً وحضارياً واجتماعياً وجغرافياً سيعني قيام أمة عملاقة بكلّ المقاييس وهذا ممنوع وفق المشاريع الاستعمارية… إذن… قطع الطريق على بناء الدولة القومية القوية والمستقلة يستعدي إغراق الوطن العربي بحروب الطوائف… بل وتتجه المعادلات لإعادة صياغة اتفاقيات سايكس بيكو من مستوى التقسيم الجغرافي إلى سايكس – بيكو منقحة تقوم على التقسيم السكاني الطائفي.
هكذا وعلى مدار قرن وأكثر تعمل الماكينة الاستعمارية العميقة بصورة مباشرة وغير مباشرة لضرب أيّ فكرة أو محاولة لتوحيد الأمة، من خلال إشغالها بتناقضاتها الداخلية التناقضات بين البلدان العربية المختلفة، بين الأديان، بين الطوائف والمذاهب، بين الأقليات الإثنية والقومية الأخرى، بين القبائل… فيما المشروع الاستعماري يستهدف الهيمنة والسيطرة على الجميع ونهب ثروات الجميع الطبيعية والحضارية والتاريخية والسيطرة على الجغرافيا…
لقد نجحت القوى الاستعمارية في إطلاق ديناميات التمزيق وجعلت من الهويات «الجزئية» القاتلة ثقافة عامة في المجتمعات العربية، وهكذا أصبحت تلك الهويات تعيد إنتاج التمزيق والجهل والتخلف والارتماء في أحضان القوى الخارجية باعتبارها المنقذ لجماعة ما من شقيقتها في ذات الوطن، من شقيقتها في الروح وفي التاريخ والوعي والثقافة والمصالح والمصادر والهمّ والفرح واللغة والأدب والجغرافيا.
كلّ هذا يحدث هنا في العالم العربي بينما ذات القوى الغازية تبذل كلّ ما تستطيع لتعزيز وحدتها وثقافتها القومية، وتعمل بكلّ طاقتها سياسياً وثقافياً واقتصادياً وإعلامياً وتعليمياً على ترسيخ ديناميات الصهر والاندماج بين مكوّناتها الاجتماعية المختلفة… هنا يتعاطون مع المجتمعات العربية كطوائف ومذاهب: فلسطيني، أردني، سوري، مصري، مغربي، جزائري، تونسي، يمني خليجي… مسلم، مسيحي، سني، شيعي، علوي، زيدي، درزي، أرثوذوكسي، ماروني، قبطي، لاتيني، سرياني…، غزة، ضفة، بدوي، مديني، لاجئ، غير لاجئ، كركي، خليلي، عربي، كردي، أمازيغي… وهكذا… المأساة أننا وبكلّ سذاجة نذهب إلى هذه المصيدة الغبية ونحن نهزج ابتهاجاً تحت رايات هذا التمزيق المهين.
هذا الواقع والخطر المحدق يفرض على القوى السياسية والاجتماعية والمثقفين والسياسيين ورجال الدين والإعلام في كلّ بلد عربي النهوض من أجل التصدي لنزعة العودة للهويات القاتلة والنفخ فيها وتغذيتها…
هذا يعني أنه في حال التناقض بين الهوية الجزئية والهوية العامة يجب وبالضرورة أن يحلّ التناقض لصالح الهوية العامة.
في سياق هذه المعادلة، من حق كلّ جماعة في المجتمع والأمة، بطبيعة الحال، أن تعتقد وتحافظ وتعتزّ بهويتها الجزئية باعتبارها مكون عضوي وطبيعي من الهوية العامة، الهوية الأرقى… ولكن من على قاعدة الاحترام العميق لوحدة المجتمع وهويته الجمعية بتنوّعها وأطيافها المختلفة…
من هنا تبدأ مقاومة التمزيق والتهميش والانعزال وثقافة الذبح والحرق والتدمير والتكفير والإقصاء… وتعزيز وتعميق ثقافة الانتماء للأمة كقومية جامعة حاضنة للجميع مهما كانت خصوصياتهم… من هنا تتناغم المعادلات… بحيث لا تتجاوز ثقافة الانتماء الطائفي أو الديني أو الجهوي أو الإثني أو العرقي أو القطري ولا تدمّر مبدأ وركيزة الانتماء القومي الأكثر تطوّراً واستجابة لطموحات الأمة بكافة مكوّناتها.
فنحن نتميّز ونتمايز عن الآخر في الهوية ليس من أجل تدميره أو من أجل الانعزال عن العالم، بل من أجل التكامل الإنساني الأشمل… من أجل الارتقاء لما هو أفضل… وليس النكوص بالتاريخ والعلاقات لمراحل تجاوزها التطوّر الموضوعي للبشرية.
هكذا نحافظ على تماسك ووحدة «سجادة» المجتمع، الوطن، الشعب، الأمة بكامل جمالها وأولانها البديعة… أما العبث على طريقة الثعالب الغبية بخيوط تلك «السجادة» ولأيّ سبب كان، فيعني السقوط في مصيدة تدميرها وبعثرتها إلى مجرد خيوط مفصولة ومنعزلة لا قيمة لها سوى استخدامها على مغازل الأخرين وأنوالهم.