«فزعة» السعوديين وانكفاء الإمبراطورية
د. وفيق ابراهيم
الديكتاتوريات البدوية في الشرق الأوسط مصابة بذعر عام يسميه البدو «الفزعة» وهو نسيب الشر المستطير. ومردّهُ إلى قرار الولايات المتحدة الحدّ من تدخلاتها العسكرية في العالم لأسباب خارجية وداخلية، مع جنوحها إلى استخدام دول إقليمية «إسرائيل» وتركيا وأجهزة استخبارات وتلاعب بالمكونات الداخلية للدول أعراق ـ طوائف ـ مذاهب ـ جهات .
لذلك لم تعد «معاهدة كوينسي» الأميركية ـ السعودية 1945 والمجددة حتى 2065، على أساس توفير الأمن الأميركي للخليج مقابل النفط ورؤوس الأموال… هذه المعاهدة لم تعد توحي الأمان. وبدأ أهل الفزعة بالتدافع بحثاً عن دروع جديدة لسلحفاتهم المهشمة في اليمن وسورية والعراق والبحرين، كأنهم لا يعرفون أن لكل مرحلة مرتكزات القوة والإسناد فيها.
فالشرق الأوسط،هذا المصطلح الحديث الذي لا تاريخية له قبل 1903، انطلق برغبة فرنسية ـ بريطانية، مع حضور أميركي في خلفية المشهد، في تأسيس نظام موالٍ للغرب فيه غالبية إسلامية، لكنه تطور بعد 1945 إلى هيمنة أميركية ذهبت في اتجاه خلق إقليم إسلامي معادٍ للشيوعية. وكان الأمر طبيعياً لأن أميركا أصبحت القوى العظمى الأساسية. لكن الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» أتاح للاتحاد السوفياتي التشويش على هذه المرحلة وبناء مواقع نفوذ له في الشرق الأوسط.
ومع انهيار الاتحاد السوفياتي 1989 ، وهو أكبر خطأ جيوبولتيكي تصاب به الإنسانية بحسب تعبير الرئيس بوتين، هيمنت أميركا على العالم وسجلت أعلى نسبة اجتياح عسكري لدولة عظمى في التاريخ وسطت على المؤسسات الدولية والإقليمية على نحو بدا فيه الشرق الأوسط كأنه يتعرض لحروب فرنجة جديدة.
هناك عدة عناصر التحمت لتجهض هذه الأحادية الأميركية، أولها نجاح النظام السوري في مقاومة أكثر من مئة دولة هي مجمل النفوذ الأميركي في العالم. وخروج إيران سليمة من حصار أميركي عليها دام ثلاثة عقود متواكبة مع تهديدات عسكرية وسياسية واستبسال حزب الله في وجه «إسرائيل» ونجاحه في التحوّل تنظيماً على مدى الأقليم. بالإضافة إلى عودة «روسيا القومية» إلى المسرح الدولي متكئة على الصعود الصيني وقفزات الهند والبرازيل ودول البريكس وطموحات جدتهم كاترين. وهذا لا يعني أن أميركا انهارت، فهي لا تزال القوة الأساسية في العالم. لكنها لم تعد الوحيدة، وأصبحت عاجزة عن إنتاج القرارات الدولية بمفردها.
فهل سقطت الأحادية؟ نعم. ولمصلحة نظام تحالفات قد يعيد ببطء التوازن إلى العلاقات الدولية، ويعرقل مشاريع الاجتياحات والضربات. وهذا ما لا يريده بدو «الفزعات». فأصبحوا يخافون على عروشهم وهم ينظرون إلى الجوار المضطرب المحيط بهم، لا يعرفون متى ينتقل التوتر إليهم، وماذا يفعلون حين يدركهم الشر، إذ يخشون أن تتخلى عنهم واشنطن في ليل بهيم.
الحقيقة أن الخليج باقٍ لقرن إضافي في صلب الاهتمامات الأميركية للنفط والرساميل والقدرة على الاستهلاك ولقدرة السعودية على الجذب الديني لعقود طويلة. ويتمتع الخليج بقيمة استراتيجية إضافية هي مجاورته لإيران التي تقلق الغرب.
لمجمل المذكور، تدفع أميركا في اتجاه التسوية بين إيران والخليج لأنها تخاف على أهل الفزعة وتعاملهم كآخر نموذج حي للقرون الوسطى. لكنها تريد هذه التسوية إلى جانب صلح عربي «إسرائيلي» ينهي القضية الفلسطينية إلى الأبد. لذلك تبدو المشكلة مزدوجة: أولها أن أميركا تريد القضاء على التنظيمات الإرهابية وإعادة تأسيس جهة واحدة تضم الجبهات المنحلة والجديدة.
والثانية أن بلدان الخليج لم تعد تصدق الأميركيين، وأصبحت تعرف أنهم لا يفعلون إلا مصالحهم فحسب، ولا يأبهون بمصالح العائلات المالكة عندما تتناقض مع مصالحهم. لذلك يذهب الخليج بعيداً، يطلب وجوداً عسكرياً أميركياً وأوروبياً كبيراً له صفة دائمة في الخليج. لأن القواعد الأميركية في رأي الرياض لم تعد تلبي المرغوب. وشروط الرياض مضحكة لأنها تريد إيقاف عقارب الزمن، وتطلب من أميركا منع تطور اليمن، ومصادرة حقوق أهل البحرين، وكبح عودة العراق إلى وحدته الوطنية. والهزلي أنها قد تسعى إلى إعادة مبارك إلى مصر وبن علي إلى تونس وتواصل الحظر على النساء في قيادة السيارات ومغادرة المطابخ والمخادع.
ويبدو أن هناك مطالب إضافية. نعم تريد تدمير إيران… وتفزع من شعوبها المتأثرة بعالم الاتصالات الكوني.
وفي المحصلة فإن إعادة التوازن النسبي إلى العلاقات الدولية، إنما هي فرصة فريدة لإنقاذ العرب عامة والخليج خاصة من «عرب الفزعات».
إعادة التوازن تتيح لنا دخول العصر من أبواب التغيير الداخلي ومقاومة الحلف الأميركي ـ «الإسرائيلي».